والتعريف في قوله ( بالعذاب ) للعهد أي بالعذاب المذكور آنفا في قوله ( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب ) الخ . ومصب الحال هو ما عطف على جملتها من قوله ( فما استكانوا لربهم ) فلا تتوهمن أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفا مستندا إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها . وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان ( أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه ) إلى قوله ( إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ) . والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجوار دون التوبة والاستغفار .
وقيل : هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفا فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر .
والاستكانة : مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته . وألفه ألف الافتعال مثل الاضطراب والتاء زائدة كزيادتها في استعاذة .
وقيل الألف للإشباع أي زيدت في الاشتقاق فلازمت الكلمة . وليس ذلك من الإشباع الذي يستعمله المستعملون شذوذا كقول طرفة : ينباع من ذفري غضوب جسرة أي ينبع . وأشار في الكشاف إلى الاستشهاد على الإشباع في نحوه إلى قول ابن هرمة : .
وأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح أراد : بمنتزح فأشبع الفتحة .
ويبعد أن يكون ( استكانوا ) استفعالا من الكون من جهتين : جهة مادته فإن معنى الكون فيه غير وجيه وجهة صيغته لأن حمل السين والتاء فيه على معنى الطلب غير واضح .
والتعبير بالمضارع في ( يتضرعون ) لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم . والتضرع : الدعاء بتذلل وتقدم في قوله ( لعلهم يتضرعون ) في سورة الأنعام . والقول في جملة ( حتى إذا فتحنا عليهم بابا ) كالقول في ( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب ) .
و ( إذا ) من قوله ( حتى إذا فتحنا عليهم بابا ) مثل ( إذا ) التي تقدمت في قوله ( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب ) الخ .
وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزا عنه حسب قوله تعالى ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) . وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى ( ولو دخلت عليهم من أقطارها ) .
شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه أو تقول : شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم . وهذا كما مثل بقوله ( وفار التنور ) وقولهم : طفحت الكأس بأعمال فلان وقوله تعالى ( فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ) وقول علقمة : .
" فحق لشاس من نداك ذنوب ومنه قول الكتاب : فتح باب كذا على مصراعيه تمثيلا لكثرة ذلك وأفاض عليه سجلا من الإحسان وقول أبي تمام : .
من شاعر وقف الكلام ببابه ... واكتن في كنفي ذراه المنطق ووصف ( بابا ) بكونه ( ذا عذاب شديد ) دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال : باب عذاب كما قال تعالى ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) لأن ( ذا عذاب ) يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب وليتأتى بذلك وصف ( عذاب ) ب ( شديد ) بخلاف قوله ( سوط عذاب ) فقد استغني عن وصفه ب ( شديد ) بأنه معمول لفعل ( صب ) الدال على الوفرة .
والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل . والأرجح : أن المراد به عذاب السيف يوم بدر . وعن مجاهد : أنه عذاب الجوع .
وقيل : عذاب الآخرة . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى ( حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ) .
والإبلاس : شدة اليأس من النجاة . قال : أبلس إذا ذل ويئس من التخلص وهو ملازم للهمزة ولم يذكروا له فعلا مجردا . فالظاهر أنه مشتق من البلاس كسحاب وهو المسح وأن أصل أبلس صار ذا بلاس . وكان شعار من زهدوا في النعيم . يقال : لبس المسوح إذا ترهب .
وهنا انتهت الجمل المعترضة المبتدأة بجملة ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ) وما تفرع عليها من قوله ( فذرهم في غمرتهم حتى حين ) إلى قوله ( إذا هم فيه مبلسون ) .
( وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 78 ] ) A E