وكذا لو كان الحق حسن الاعتداء والباطل قبح العدل لارتمى الناس بعضهم على بعض بالإهلاك جهد المستطاع فهلك الضرع والزرع قال تعالى ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) وهكذا الحال في أهوائهم المختلفة . ويزيد أمرها فسادا بأن يتبع الحق كل ساعة هوى مخالفا للهوى الذي اتبعه قبل ذلك فلا يستقر نظام ولا قانون .
وهذا المعنى ناظر إلى معنى قوله تعالى ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
والظاهر أن ( من ) في قوله ( ومن فيهن ) صادقة على العقلاء من البشر والملائكة . ففساد البشر على فرض أن يكون جاريا على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه .
وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم آلهة لأن المتولد من جنس يجب أن يكون مماثلا لما تولد هو منه إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة . وأيضا لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح .
ويجوز أن يكون ( من ) صادقا على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال ( من ) . ووجه الملازمة ينتظم بالأصالة مع وجه الملازمة بين تعدد الآلهة وبين فساد السماوات والأرض ثم يسري إلى اختلاف مواهي الموجودات فتصبح غير صالحة لما خلقت عليه فيفسد العالم . وقد كان بعض الفلاسفة المتأخرين فرض بحثا في إمكان فناء العالم وفرض أسبابا إن وجد واحدا منها في هذا العالم وعد من جملتها أن تحدث حوادث جوية تفسد عقول البشر كلهم فيتألبون على إهلاك العالم فلو أجرى الله النظام على مقتضى الأهواء من مخالفة الحق لما هو عليه في نفس الأمر كما يشتهون لعاد ذلك بالفساد على جميع العالم فكانوا مشمولين لذلك الفساد لأنهم من جملة ما في السماوات والأرض فناهيك بأفن آراء لا تميز بين الضر والنافع لأنفسهما . وكفى بذلك شناعة لكراهيتهم الحق وإبطالا لزعمهم أن ما جاه به الرسول تصرفات مجنون .
( بل أتينهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون [ 71 ] ) إبطال لما اقتضاه الفرض في قوله ( ولو اتبع الحق أهواءهم ) أي بل لم يتبع الحق أهواءهم فأبلغنا إليهم الحق على وجهه بالقرآن الذي هو ذكر لهم يوقظ عقولهم من سباتها . كأنه يذكر عقولهم الحق الذي نسيته بتقادم الزمان على ضلالات آبائهم التي سنوها لهم فصارت أهواء لهم ألفوها فلم يقبلوا انزياحا عنها وأعرضوا عن الحق بأنه خالفها فجعل إبلاغ الحق لهم بالأدلة بمنزلة تذكير الناسي شيئا طال عهده به كما قال عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري " فإن الحق قديم " قال تعالى ( ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ) .
وعدي فعل ( أتيناهم ) بالباء لأنه استعمل مجازا في الإرسال والتوجيه .
والذكر يجوز أن يكون مصدرا بمعنى التذكير . ويجوز أن يكون اسما للكلام الذي يذكر سامعيه بما غفل عنه وهو شأن الكتب الربانية . وإضافة الذكر إلى ضميرهم لفظية من الإضافة إلى مفعول المصدر .
والفاء لتفريع إعراضهم على الإتيان بالذكر إليهم أي فتفرع على الإرسال إليهم بالذكر إعراضهم عنه . والمعنى : أرسلنا إليهم القرآن ليذكرهم .
وقيل : إضافة الذكر إلى ضميرهم معنوية أي الذكر الذي سألوه حين كانوا يقولون ( ولو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين ) فيكون الذكر على هذا مصدرا بمعنى الفاعل أي ما يتذكرون به . والفاء على هذا الوجه فاء فصيحة أي فها قد أعطيناهم كتابا فأعرضوا عن ذكرهم الذي سألوه كقوله تعالى ( لو أن عندنا ذكرا من الأولين ) أي من رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم ( لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به ) وقول عباس ابن الأحنف : .
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسان وقوله تعالى ( أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير ) .
والتعبير عن إعراضهم بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات إعراضهم وتمكنه منهم . وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكرهم ليكون إعراضهم عنه محل عجب .
A E