وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافا لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة . فكان المعنى : بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم فأما أكثرهم فكراهية للحق وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم .
وتقديم المعمول في قوله ( للحق كارهون ) اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية .
( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) عطف هذا الشرط الامتناعي على جملة ( وأكثرهم للحق كارهون ) زيادة في التشنيع على أهوائهم فإنها مفضية إلى فساد العالم ومن فيه وكفى بذلك فظاعة وشناعة .
والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله ( بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ) وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء . وعلم من قوله ( ولو اتبع الحق أهواءهم ) أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفا أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى . والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه وهو مصدر بمعنى المفعول . وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس أو شهوة ما تقتضيه الجبلة لكن يشتهى على كيفية وحالة لا تقتضيها الجبلة لما يترتب على تلك الحالة من فساد وضر مثل شهوة الطعام المغصوب وشهوة الزنا فمرجع معنى الهوى إلى المشتهى الذي لا تقتضيه الجبلة .
والاتباع : مجاز شائع في الموافقة أي لو وافق الحق ما يشتهونه . ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس . فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له : فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحدا وكونه لا يلد وكونه البعث واقعا للجزاء فكونها حقا هو عين تقررها في الخارج .
ومنها الحقائق المعنوية الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات . وكونها حقا هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلما وكون القتل عدوانا وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن أي من في السماوات والأرض من الناس .
ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جاريا على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى ؛ فمنها المتفق وأكثرهم مختلف وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقا لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم .
فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) وقد تقدم تفصيله في سورة الأنبياء . وذلك أصل الحق وقوامه وانتقاضه انتقاض لنظام السماوات والأرض كما تقدم . وقد قال الله تعالى في هذه السورة ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) الآية فمن هواهم الباطل أن جعلوا من كمال الله أن يكون له ولد .
ثم ننتقل بالبحث إلى بقية حقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق لو فرض أن يكون الثابت نقيض ذلك لتسرب الفساد إلى السماوات والأرض ومن فيهن . فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل ؛ فلم يعمل أحد خيرا إذ لا رجاء في ثواب . ولم يترك أحد شرا إلا إذ لا خوف من عقاب فيغمر الشر الخير والباطل الحق وذلك فساد لمن في السماوات والأرض قال تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) .
A E