وأما الاستفهام الثالث المقدر بعد ( أم ) الثانية في قوله ( أم لم يعرفوا رسولهم ) فهو استفهام عن عدم معرفتهم الرسول بناء على ان عدم المعرفة به هو أحد احتمالين في شأنهم إذ لا يخلون عن أحدهما فأما كونهم يعرفونه فهو المظنون بهم فكان الأجدر بالاستفهام وهو عدم معرفتهم به إذ تفرض كما يفرض الشيء المرجوح لأنه محل الاستغراب المستلزم للتغليط ؛ فإن رميهم الرسول بالكذب وبالسحر والشعر يناسب أن لا يكونوا يعرفونه من قبل إذ العارف بالمرء لا يصفه بما هو منه بريء ولذلك تفرع على عدم معرفتهم إنكارهم إياه أي إنكارهم صفاته الكاملة .
فتعليق ضمر ذات الرسول ب ( منكرون ) هو من باب إسناد الحكم إلى الذات والمراد صفاتها مثل ( حرمت عليكم أمهاتكم ) . وهذه الصفات هي الصدق والنزاهة عن السحر وأنه ليس في عداد الشعراء .
ولله در أبي طالب في قوله : .
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعزى لقول الأباطل وقال تعالى فيما أمر به رسوله ( فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ( أي القرآن ) أفلا تعقلون ) .
ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على ( أم لم يعرفوا رسولهم ) قوله ( أم يقولون به جنة ) وهو الاستفهام الرابع أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذبا .
والجنة : الجنون وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان كانوا يعتقدون أنه من مس الجن .
والجنة يطلق على الجن وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله ( من الجنة والناس ) . ويطلق الجنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة . وتقدم عند قوله تعالى ( أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ) في سورة الأعراف . وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتانا . وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام . ثم قد نقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهو ( بل ) .
والحق : الثابت في الواقع ونفس الأمر يكون في الذوات وأوصافها . وفي الأجناس . وفي المعاني . وفي الأخبار . فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه السلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط .
فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع ذلك من الشرائع النازلة بمكة كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم والاعتراف للفاضل بفضله وزجر الخبيث عن خبثه وأخوة المسلمين بعضهم لبعض والمساواة بينهم في الحق ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين . ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان . والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم . فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال ( ما خلقناهما إلا بالحق ) . ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسل حق نقضا لإنكارهم صدقه . ولقولهم هو مجنون كان ما بعد ( بل ) نقضا لقولهم .
وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير ( أكثرهم ) يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله ( فذرهم في غمرتهم ) فيكون المعنى : أكثر المشركين من قريش كارهون للحق . وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلفوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى ( ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ) فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع . ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) إلى قوله ( ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) .
A E