ولذا فالعذاب المذكور هنا عذاب هددوا به . وهو إما عذاب الجوع الثاني الذي أصاب أهل مكة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته . ذلك أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي عقب سرية خالد بن الوليد إلى بني كلب التي أخذ فيها ثمامة أسيرا وأسلم فمنع صدور الميرة من أرض قومه باليمامة إلى أهل مكة وكانت اليمامة مصدر أقواتهم حتى سميت ريف أهل مكة فأصابهم جوع حتى أكلوا العلهز والجيف سبع سنين وإما عذاب السيف الذي حل بهم يوم بدر .
وقيل إن هذا العذاب عذاب وقع قبل نزول الآية وتعين انه عذاب الجوع الذي أصابهم أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثم كشفه الله عنهم ببركة نبيه وسلامة المؤمنين وذلك المذكور في سورة الدخان ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنين ) .
وقيل العذاب عذاب الآخرة . ويبعد هذا القول أنه سيذكر عذاب الآخرة في قوله تعالى ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون... ) الآيات إلى قوله ( إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم تعلمون ) كما ستعلمه .
وتجيء منه وجوه من الوجوه المتقدمة لا يخفى تقريرها .
ومعنى ( يجأرون ) يصرخون ومصدره الجأر . والاسم الجؤار بضم الجيم وهو كناية عن شدة ألم العذاب بحيث لا يستطيعون صبرا عليه فيصدر منهم صراخ التأوه والويل والثبور .
وجملة ( لا تجأروا اليوم ) معترضة بين ما قبلها وما تفرع عليه من قوله ( أفلم يدبروا القول ) وهي مقول قول محذوف أي تقول لهم : لا تجأروا اليوم .
وهذا القول كلام نفسي أعلمهم الله به لتخويفهم من عذاب لا يغني عنهم حين حلوله جؤار إذا لا مجيب لجؤارهم ولا مغيث لهم منه إذ هو عذاب خارج عن مقدور الناس لا يطمع أحد في تولي كشفه . وهذا تأييس لهم من النجاة من العذاب الذي هددوا به . وإذا كان المراد بالعذاب الآخرة فالقول لفظي والمقصود منه قطع طماعيتهم في النجاة .
والنهي عن الجؤار مستعمل في معنى التسوية . وورود النهي في معنى التسوية مقيس على ورود الأمر في التسوية . وعثرت على اجتماعهما في قوله تعالى ( اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) .
وجملة ( إنكم منا لا تنصرون ) تعليل للنهي المستعمل في التسوية أي لا تجأروا إذ لا جدوى لجؤاركم إذ لا يقدر مجير أن يجيركم من عذابنا فموقع ( إن ) إفادة التعليل لأنها تغني غناء فاء التفريع .
وضمن ( تنصرون ) معنى النجاة فعدي الفعل ب ( من ) أي لا تنجون من عذابنا . فثم مضاف محذوف بعد ( من ) وحذف المضاف في مثل هذا المقام شائع في الاستعمال . وتقديم المجرور للاهتمام بجانب الله تعالى ولرعاية الفاصلة .
وقوله ( قد كانت آياتي تتلى عليكم ) استئناف . والخبر مستعمل في التنديم والتلهيف . وإنما لم تعطف الجملة على ملة ( إنكم منا لا تنصرون ) لقصد إفادة معنى بها غير التعليل إذ لا كبير فائدة في الجمع بين علتين .
والآيات هنا هي آيات القرآن بقرينة ( تتلى ) إذ التلاوة القراءة .
والنكوص : الرجوع من حيث أتى وهو الفرار . والأعقاب : مؤخر الأرجل . والنكوص هنا تمثيل للإعراض وذكر الأعقاب ترشيح للتمثيل . وقد تقدم في قوله تعالى ( فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ) في سورة الأنفال .
وذكر فعل ( كنتم ) للدلالة على أن ذلك شأنهم . وذكر المضارع للدلالة على التكرر فذلك خلق منهم معاد مكرور .
وضمير ( به ) يجوز أن يكون عائدا على الآيات لأنها في تأويل القرآن فيكون ( مستكبرين ) بمعنى معرضين استكبارا ويكون الباء بمعنى ( عن ) أو ضمن ( مستكبرين ) معنى ساخرين فعدي بالباء للإشارة إلى تضمينه .
ويجوز أيضا أن يكون الضمير للبيت أو المسجد الحرام وإن لم يتقدم له ذكر لأنه حاضر في الأذهان فلا يسمع ضمير لم يتقدم له معاد إلا ويعلم أنه المقصود بمعونة السياق لا سيما وقد ذكر تلاوة الآيات عليهم . وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوا عليهم آيات القرآن في المسجد الحرام إذ هو مجتمعهم . فتكون الباء للظرفية . وفيه إنحاء عليهم في استكبارهم وفي كون استكبارهم في ذلك الموضع الذي أمر الله أن يكون مظهرا للتواضع ومكارم الأخلاق فالاستكبار في الموضع الذي شأن القائم فيه أن يكون قانتا لله حنيفا أشنع استكبار .
وعن منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي قرطبة أن الضمير في قوله ( به ) للنبي صلى الله عليه وسلم والباء حينئذ للتعدية وتضمين ( مستكبرين ) معنى مكذبين لأن استكبارهم هو سبب التكذيب