( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون [ 64 ] لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون [ 65 ] قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون [ 66 ] مستكبرين به سامرا تهجرون [ 67 ] ) ( حتى ) ابتدائية . وقد تقدم ذكرها في سورة الأنبياء عند قوله تعالى ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ) .
و ( حتى ) الابتدائية يكون ما بعدها ابتداء كلام فليس الدال على الغاية لفظا مفردا كما هو الشأن مع ( حتى ) الجارة و ( حتى ) العاطفة بل هي غاية يدل عليها المقام والأكثر أن تكون في معنى التفريع .
وبهذه الغاية صار الكلام تهديدا لهم بعذاب سيحل بهم يجأرون منه ولا ملجأ لهم منه . والظاهر أنه عذاب في الدنيا بقرينة قوله ( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ) .
و ( إذا ) الأولى ظرفية فيها معنى الشرط فلذلك كان الأصل والغالب فيها أن تدل على ظرف مستقبل . ( وإذا ) الثانية فجائية داخلة على جواب شرط ( إذا ) .
والمترفون : المعطون ترفا وهو الرفاهية أي المنعمون كقوله تعالى ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ) فالمترفون منهم هم سادتهم وأكابرهم والضمير المضاف إليه عائد إلى جميع المشركين أصحاب الغمرة .
وإنما جعل الأخذ واقعا على المترفين منهم لأنهم الذين أضلوا عامة قومهم ولولا نفوذ كلمتهم على قومهم لاتبعت الدهماء الحق لأن العامة أقرب إلى الإنصاف إذا فهموا الحق بسبب سلامتهم من جل دواعي المكابرة من توقع تقلص سؤدد وزوال نعيم . وكذلك حق على قادة الأمم أن يؤاخذوا بالتبعات اللاحقة للعامة من جراء أخطائهم ومغامرتهم عن تضليل أو سوء تدبر وأن يسألوا عن الخيبة أن ألقوا بالذين اتبعوهم في مهواة الخطر كما قال تعالى ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كثير ) وقال ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) .
وتخصيص المترفين بالتعذيب مع أن شأن العذاب الإلهي إن كان دنيويا أن يعم الناس كلهم إيماء إلى أن المترفين هم سبب نزول العذاب بالعامة ولأن المترفين هم أشد إحساسا بالعذاب لأنهم لم يعتادوا مس الضراء والآلام . وقد علم مع ذلك أن العذاب يعم جميعهم من قوله ( إذا هم يجأرون ) فإن الضميرين في ( إذا هم ) و ( يجأرون ) عائدان إلى ما عاد إليه ضمير ( مترفيهم ) بقرينة قوله ( قد كانت آياتي تتلى عليكم ) إلى قوله ( سامرا تهجرون ) فإن ذلك كان من عمل جميعهم .
ويجوز أن يكون المراد بالمترفين جميع المشركين فتكون الإضافة بيانيه ويكون ذكر المترفين تهويلا في التهديد تذكيرا لهم بأن العذاب يزيل عنهم ترفهم ؛ فقد كان أهل مكة في ترف ودعة إذ كانوا سالمين من غارات الأقوام لأنهم أهل الحرم الآمن وكانوا تجبى إليهم ثمرات كل شيء وكانوا مكرمين لدى جميع القبائل قال الأخطل : .
فأما الناس ما حاشا قريشا ... فإنا نحن أفضلهم فعالا وكانت أرزاقهم تأتيهم من كل مكان قال تعالى ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) فيكون المعنى : حتى إذا أخذناهم وهم في ترفهم كقوله ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ) .
ويجوز أن يكون المراد حلول العذاب بالمترفين خاصة أي بسادتهم وصناديدهم وهو عذاب السيف يوم بدر فإنه قتل يومئذ كبراء قريش وهم أصحاب القليب . قال شداد بن الأسود : .
وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تزين بالسنام .
وماذا بالقليب قليب بدر ... من القينات والشرب الكرام يعني ما ضمنه القليب من رجال كانت سجاياهم الإطعام والطرب واللذات .
وضمير ( إذا هم يجأرون ) على هذا الوجه عائد إلى غير المترفين لأن المترفين قد هلكوا فالبقية يجأرون من التلهف على ما أصاب قومهم والإشفاق أن يستمر القتل في سائرهم فهم يجأرون كلما صرع واحد من سادتهم ولأن أهل مكة عجبوا من تلك المصيبة ورثوا أمواتهم بالمراثي والنياحات .
ثم الظاهر أن المراد من هذا العذاب عذاب يحل بهم في المستقبل بعد نزول هذه الآية التي هي مكية فيتعين أن هذا عذاب مسبوق بعذاب حل بهم قبله كما يقتضيه قوله تعالى ( ولقد أخذناهم بالعذاب ) الآية .
A E