وجملة ( إن الله سميع بصير ) تعليل لمضمون جملة ( الله يصطفي ) لأن المحيط علمه بالأشياء هو الذي يختص بالاصطفاء . وليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفى عنهم نقائصهم بله اصطفاء الحجارة الصماء .
والسميع البصير : كناية عن عموم العلم بالأشياء بحسب المتعارف في المعلومات أنها لا تعدو المسموعات والمبصرات .
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور [ 76 ] ) جملة مقررة لمضمون جملة ( إن الله سميع بصير ) . وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية .
A E و ( ما بين أيديهم ) مستعار لما يظهرونه ( وما خلفهم ) هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يخفيه يجعله وراءه .
ويجوز أن يكون ( ما بين أيديهم ) مستعارا لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه .
( وما خلفهم ) مستعار لما مضى وعبر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه .
وضمير ( أيديهم ) و ( خلفهم ) عائدان : إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير ( فلا ينازعنك في الأمر ) وإما إلى الملائكة والناس . وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة .
وبني فعل ( ترجع ) إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلا بالله تعالى فهو يمهل الناس في الدنيا وهو يرجع الأمور إليه يوم القيامة .
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين . والتعريف في ( الأمور ) للاستغراق أي كل أمر . وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعا لما قبله من قوله ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) .
( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون [ 77 ] ) لما كان خطاب المشركين فاتحا لهذه السورة وشاغلا لمعظمها عدا ما وقع اعتراضا في خلال ذلك . فقد خوطب المشركون ب ( يا أيها الناس ) أربع مرات فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم . ختمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يصلح أعمالهم وينوه بشأنهم .
وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال .
والمراد بالركوع والسجود الصلوات . وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية . وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله ( واعبدوا ربكم ) تنبيه على أن الصلاة عماد الدين .
والمراد بالعبادة : ما أمر الله الناس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج .
وقوله ( وافعلوا الخير ) أمر بإسداء الخير إلى الناس من الزكاة وحسن المعاملة : كصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر مكارم الأخلاق وهذا مجمل بينته وبينت مراتبه أدلة أخرى .
والرجاء المستفاد من ( لعلكم تفلحون ) مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحد الموجب للفلاح فيما حدد الله تعالى . فهذه حقيقة الرجاء . وأما ما يستلزمه الرجاء من تردد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تحيل الشك على الله تعالى .
واعلم أن قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) إلى ( لعلكم تفلحون ) اختلف الأئمة في كون ذلك موضع سجدة من سجود القرآن . والذي ذهب إليه الجمهور أن ليس ذلك موضع سجدة وهو قول مالك في الموطأ والمدونة وأبي حنيفة والثوري .
وذهب جمع غفير إلى أن ذلك موضع سجدة وروى الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المدينة ونسبه ابن العربي إلى مالك في رواية المدنيين من أصحابه عنه . وقال ابن عبد البر في الكافي : " ومن أهل المدينة قديما وحديثا من يرى السجود في الثانية من الحج قال : وقد رواه ابن وهب عن مالك " . وتحصيل مذهبه أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء " فلم ينسبه إلى مالك إلا من رواية ابن وهب وكذلك ابن رشد في المقدمات : فما نسبة ابن العربي إلى المدنيين من أصحاب مالك غريب