وصيغة الماضي في قوله ( ضرب ) مستعملة في تقريب زمن الماضي من الحال على الاحتمال الأول نحو قوله تعالى ( لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ) . أي لو شارفوا أن يتركوا . أي بعد الموت .
وجملة ( إن الذين تدعون من دون الله ) إلى آخرها يجوز أن تكون بيانا لفعل " ضرب " على الاحتمال الأول في التقدير أي بين تمثيل عجيب .
A E ويجوز أن تكون بيانا للفظ ( مثل ) لما فيها من قوله ( تدعون من دون الله ) على الاحتمال الثاني .
وفرع على ذلك المعنى من الإيجاز قوله ( فاستمعوا له ) لاسترعاء الأسماع إلى مفاد هذا المثل مما يبطل دعوى الشركة لله في الإلهية . أي استمعوا استماع تدبر .
فصيغة الأمر في ( استمعوا له ) مستعملة في التحريض على الاحتمال الأول وفي التعجيب على الاحتمال الثاني . وضمير " له " عائد على المثل على الاحتمال الأول لأن المثل على ذلك الوجه من قبيل الألفاظ المسموعة وعائد على الضرب المأخوذ من فعل ( ضرب ) على الاحتمال الثاني على طريقة ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي استمعوا للضرب أي لما يدل على الضرب من الألفاظ فيقدر مضاف بقرينة ( استمعوا ) لأن المسموع لا يكون إلا ألفاظا أي استمعوا لما يدل على ضرب المثل المتعجب منه في حماقة ضاربيه . واستعملت صيغة الماضي في ( ضرب ) مع أنه لما يقل لتقريب زمن الماضي من الحال كقوله ( لو تركوا من خلقهم ذرية ضعافا ) أي لو قاربوا أن يتركوا . وذلك تنبيه للسامعين بان يتهيأوا لتلقي هذا المثل لما هو معروف لدى البلغاء من استشرافهم للأمثال ومواقعها .
والمثل : شاع في تشبيه حالة بحالة كما تقدم في قوله ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) في سورة البقرة فالتشبيه في هذه الآية ضمني خفي ينبئ عنه قوله ( ولو اجتمعوا له ) وقوله ( لا يسنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) . فشبهت الأصنام المتعددة المتفرقة في قبائل العرب وفي مكة بالخصوص بعظماء أي عند عابديها . وشبهت هيئتها في العجز بهيئة ناس تعذر عليهم خلق أضعف المخلوقات وهو الذباب بله المخلوقات العظيمة كالسماوات والأرض . وقد دل إسناد نفي الخلق إليهم على تشبيههم بذوي الإرادة لأن نفي الخلق بمقتضى محاولة إيجاده وذلك كقوله تعالى ( أموات غير أحياء ) كما تقدم في سورة النحل . ولو فرض أن الذباب سلبهم شيئا لم يستطيعوا أخذه منه ودليل ذلك مشاهدة عدم تحركهم فكما عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف توسم بالإلهية . ورمز إلى الهيئة المشبه بها يذكر لوازم أركان التشبيه من قوله ( لن يخلقوا ) وقوله ( وإن يسلبهم الذباب شيئا ) إلى آخره . لا جرم حصل تشبيه هيئة الأصنام في عجزها بما دون هيئة أضعف المخلوقات فكانت تمثيلية مكنية .
وفسر صاحب الكشاف المثل هنا بالصفة الغربية تشبيها لها ببعض الأمثال السائرة . وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده اقتصادا منه في الغوص عن المعنى لا ضعفا عن استخراج حقيقة المثل فيها وهو جذيعها المحكك . وعذيقها الموجب ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلا بأمر خطير وكم ترك الأول للأخير .
وفرع على التهيئة لتلقي هذا المثل الأمر بالاستماع له وإلقاء الشراشر لوعيه وترقب بيان إجماله توخيا للتفطن لما يتلى بعد .
وجملة ( إن الذين تدعون ) إلخ بيان ل ( مثل ) على كلا الاحتمالين السابقين في معنى ( ضرب مثل ) فإن المثل في معنى القول فصح بيانه بهذا الكلام .
وأكد إثبات الخبر بحرف توكيد الإثبات وهو ( إن ) وأكد ما فيه من النفي بحرف توكيد النفي ( لن ) لتنويل المخاطبين منزلة المنكرين لمضمون الخبر لأن جعلهم الأصنام آلهة يقتضي إثباتهم الخلق إليها وقد نفي عنها الخلق في المستقبل لأنه أظهر في إقحام الذين ادعوا لها الإلهية لأن نفي أن تخلق في المستقبل يقتضي نفي ذلك في الماضي بالأحرى لأن الذي يفعل شيئا يكون فعله من بعد أيسر عليه .
وقرأ الجمهور ( تدعون ) بتاء الخطاب على أن المراد بالناس في قوله ( يا أيها الناس ) خصوص المشركين . وقرأه يعقوب " بياء الغيبة " على أن يقصد ب ( يا أيها الناس ) جميع الناس وأنهم علموا بحال فريق منهم وهم أهل الشرك . والتقدير : إن الذين يدعون هم فريق منكم