لما حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرسل يكون عليهم فتنة خص في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمهم مع جملة الكافرين بالرسل فخصهم بأنهم يستمر شكهم فيما جاء به محمد A ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة فالذين كفروا هنا هم مشركو العرب بقرينة المضارع في فعل ( لا يزال ) وفعل ( حتى تأتيهم ) الدالين على استمرار ذلك في المستقبل .
ولأجل ذلك قال جمع من المفسرين : إن ضمير ( في مرية منه ) عائد إلى القرآن المفهوم من المقام . والأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير ( أنه الحق من ربك فيؤمنوا به ) .
و ( الساعة ) علم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن واليوم : يوم الحرب . وقد شاع إطلاق اسم اليوم على وقت الحرب . ومنه دعيت حروب العرب المشهورة ( أيام العرب ) .
والعقيم : المرأة التي لا تلد ؛ استعير العقيم للمسؤوم لأنهم يعدون المرأة التي لا تلد مشؤومة .
فالمعنى : يأتيهم يوم يستأصلون فيه قتلا . وهذا إنذار بيوم بدر .
( الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم [ 56 ] والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين [ 57 ] والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين [ 58 ] ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم [ 59 ] ) آذنت الغاية التي في قوله ( حتى تأتيهم الساعة بغتة ) أن ذلك وقت زوال مرية الذي كفروا فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية, وعن ماذا يلقونه عند زوالها فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة ( الملك يومئذ لله يحكم بينهم ) إلى آخر ما فيها من التفصيل فهي استئناف بياني .
فقوله ( يومئذ ) تقدير مضافة الذي عوض عنه التنوين : يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة .
وجملة ( يحكم بينهم ) اشتمال من جملة ( الملك يومئذ لله ) .
والحكم بينهم : الحكم فيما اختلفوا فيه من أدعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل الدال عليه قوله ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ) وقوله ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ) فقد يكون الحكم بالقول وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق . وقد فصل الحكم بقوله ( فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) الخ وهو تفصيل لأثر الحكم يدل على تفصيل أصله أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم .
وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه . وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويها بشأن الهجرة ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر .
والتعريف في ( الملك ) تعريف الجنس . فذلت جملة ( الملك يومئذ لله ) على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون ملكا لله . كما تقدم في قوله تعالى ( الحمد لله ) أي لا ملك لغيره يومئذ .
والمقصود بالكلام هو جملة ( يحكم بينهم ) إذ هم البدل . وإنما قدمت جملة ( الملك يومئذ لله ) تمهيدا لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه .
وافتتح الخبر عن الذين كفروا باسم الإشارة في قوله ( فأولئك لهم عذاب مهين ) للتنبيه على أنهم استحقوا العذاب المهين لأجل ما تقدم من صفتهم بالفكر والتكذيب بالآيات .
والمهين : المذل أي لهم عذاب مشتمل على ما فيه مذلتهم كالضرب بالمقامع ونحوه .
وقرن ( فأولئك لهم عذاب مهين ) بالفاء لما تضمنه التقسيم من معنى حرف التفصيل وهو ( أما ) كأنه قيل : وأما الذين كفروا لأنه لما تقدم ثواب الذين آمنوا كان المقام مثيرا لسؤال من يترقب مقابلة ثواب المؤمنين بعقاب الكافرين وتلك المقابلة من مواقع حرف التفصيل .
والرزق : العطاء وهو كل ما يتفضل به من أعيان ومنافع . ووصفه بالحسن لإفادة أنه يرضيهم بحيث لا يتطلبون غيره لأنه لا أحسن منه .
A E