ومعنى هذه الآية : أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان كما حكي الله عن المشركين قولهم ( أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدون عن دعوة رسلهم وذلك هو الصبر الذي في قوله ( لولا أن صبرنا عليها ) وقوله ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ) . وكلما أفسد الشيطان دعوة الرسل أمر الله رسله فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن . فبتلك المعاودة ينسخ ما ألقاه الشيطان وتثبت الآيات السالفة . فالنسخ : الإزالة والإحكام : التثبيت . وفي كلتا الجملتين حذف مضاف أي ينسخ آثارها ما يلقي الشيطان ويحكم آثار آياته .
واللامان في قوله ( ليجعل ) وفي قوله ( وليعلم ) متعلقتان بفعل ( ينسخ الله ) فإن النسخ يقتضي منسوخا . وفي ( يجعل ) ضمير عائد إلى الله في قوله ( فينسخ الله ) .
والجعل هنا : جعل نظام ترتب المسببات على أسبابها وتكوين تفاوت المدارك ومراتب درجاتها . فالمعنى : أن الله مكن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيماء بحسب اختلاف القابليات . فهذا كقوله تعالى ( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك نتهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) .
ولام ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة ) مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا ) . وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنة من أفتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان وعن استماع ما أحكم الله به آياته فيستمر كفرهم ويقوى .
وأما لام ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ) فهي على أصل معنى التعليل أي ينسخ ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون انه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدي كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم .
( والذين في قلوبهم مرض ) هم المترددون في قبول الإيمان . ( والقاسية قلوبهم ) هم الكافرون المصممون على الكفر . والفريقان هم المراد ب ( الظالمين ) في قوله ( وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ) . فذكر ( الظالمين ) إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم . أي كفرهم .
والشقاق : الخلاف والعداوة .
والبعيد هنا مستعمل في معنى : البالغ حدا قويا في حقيقته . تشبيها لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى ( فذو دعاء عريض ) أي دعاء كثير ملح .
وجملة ( وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ) معترضة بين المتعاطفات .
و ( الذين أوتوا العلم ) هم المؤمنون بقرينة مقابلته ب ( الذين في قلوبهم مرض ) وبقوله ( وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) . فالمراد بالعلم الوحي والكتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم .
وإطلاق ( الذين أوتوا العلم ) على المؤمنين تكرار في القرآن .
وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم وهو علم الدين الذي يبلغهم الرسل " عليهم الصلاة والسلام " فإن نور النبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول . وذلك تجد من يصحب الرسول A قد يكون قبل الإيمان جلفا فإذا آمن انقلب حكيما مثل عمر بن الخطاب " Bه " .
وقد قال النبي A " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
A E