والتمني : كلمة مشهورة . وحقيقتها : طلب الشيء العسير حصوله . والأمنية : الشيء المتمنى . وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلهم صالحين مهتدين . والاستثناء من عموم أحوال تابعه لعموم أصحابها وهو ( من رسول ولا نبي ) أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلا في حال إذا تمنى أحدهم أمنية ألقي الشيطان فيها الخ أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأن أماني الأنبياء خير محض والشيطان دأبه الإفساد وتعطيل الخير .
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة وهو قصر إضافي أي دون أن نرسل أحد منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره .
والإلقاء حقيقته : رمي الشيء من اليد . واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيها للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس . ومنه قوله تعالى ( فكذلك ألقي السامري ) وقوله ( فألقوا إليهم القول ) وكقوله تعالى ( فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها ) على ما حققناه فيما مضى .
ومفعول ( ألقى ) محذوف دل عليه المقام لأن الشيطان إنما يلقي الشر والفساد . فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنى الهدي والصلاح . وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دل على أنه إلقاء الضلال والفساد . فالتقدير : أدخل الشيطان في نفوس القوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد .
ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول ألقاء ما يضادها كمن يمكر فيلقي السم في السم فإلقاء الشيطان بوسوسته : أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان ويلقي في قلوب أئمة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم . ويروج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البرهان والله تعالى يعيد الإرشاد ويكرر الهدي على لسان النبي . ويفضح وساوس الشيطان وسوء فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) وقوله ( إن الشيطان لكم عدو فأتخذوه عدوا ) . فالله يهديه وبيانه ينسخ ما يلقي الشيطان أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح ويزيد آيات دعوة رسله بيانا وذلك هو إحكام آياته أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رين على قلبه . وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران .
وقد فسر كثير من المفسرين ( تمنى ) بمعنى قرأ . وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتا نسبوه إلى حسان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها . وأياما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواء أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقى الشيطان في أمنيته أي في قراءته أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر . فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدم امتثال النبي بإلقاء شيء لخلطه وإفساده .
وعندي في صحة إطلاق لفظ المنية على القراءة شك عظيم فإنه وإن كان قد ورد تمنى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الخير : .
تمنى كتاب الله أول ليله ... تمنى داود الزبور على مهل فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية .
ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنى هدي قومه أو حرص على ذلك فلقي العناد وتمنى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يقصر النبي من حرصه أو أن يضجره وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر ان ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلف به الدأب على الدعوة والحرص على الرشد . فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوحا إلى قوله تعالى ( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت ان تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدي فلا تكونن من الجاهلين ) .
و ( ثم ) في قوله ( ثم يحكم الله آياته ) للترتيب الرتبي لأن إحكام الآيات وتقريرها أهم من نسخ ما يلقي الشيطان بالإحكام يتضح الهدى ويزداد ما يلقيه الشيطان نسخا .
وجملة ( والله عليم حكيم ) معترضة .
A E