فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت منهم آثارها فلهو قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون . بها وهذا كقوله تعالى ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) .
والفاء في جملة ( فإنها لا تعمى الأبصار ) تفريع على جواب النفي في قوله ( فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) وفذلكة للكلام السابق وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم .
والضمير في قوله ( فإنها ) ضمير القصة والشأن أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعد الضمير أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب . أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات والمدرك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصم فآفة ذلك كله هو اختلال العقل .
واستعير العمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه .
والتعريف في ( الأبصار والقلوب والصدور ) تعريف الجنس الشامل لقلوب المتحدث عنهم وغيرهم . والجمع فيها باعتبار أصحابها .
وحرف التوكيد في قوله ( فإنها لا تعمى الأبصار ) لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه .
وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانها بحرف التوكيد .
والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائي للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمى وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه فالقصر ترشيح للاستعارة .
ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبداعة النظم .
و ( التي في الصدور ) صفة ( للقلوب ) تفيد توكيدا للفظ ( القلوب ) فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى ( ولا طائر يطير بجناحيه ) . ووزان في قوله ( يقولون بأفواههم ) فهو لزيادة التقرير والتشخيص .
ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضا بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله A : " فالآن أنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي " فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحب الأشياء إليه .
( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 47 ] ) عطف على جملة ( وإن يكذبوك ) عطف القصة على القصة فإن من تكذيبهم أنهم كذبوا بالوعيد وقالوا : لو كان محمد صادقا في وعيده لعجل لنا وعيده فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء كما حكى الله عنهم في قوله ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) وقال ( ويقولون . متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ) فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله ( فأمليت للكافرين ) الآية .
وحكي ( ويستعجلونك ) بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديدا منهم للاستهزاء وتوركا على المسلمين .
والخطاب للنبي A والمقصود إبلاغه إياهم .
والباء من قوله ( بالعذاب ) زائدة لتأكيد معنى الاستعجال بشدته كأنه قيل يحرصون على تعجيله . وقد تقدم ذلك عند قوله " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة " في أول سورة الرعد .
ولما كان استعجالهم إياه تعريضا منهم بأنهم موقنون بأنه غير واقع أعقب بقوله ( ولن يخلف الله وعده ) . أي فالعذاب الموعود لهم واقع لا محالة لأنه وعد من الله والله لا يخلف وعده . وفيه تأنيس للنبي A والمؤمنين لئلا يستبطئونه .
وقوله ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) عطف على جملة ( ولن يخلف الله وعده ) فإن الله توعدهم بالعذاب وهو صادق على عذاب الدنيا والآخرة وهم إنما استعجلوا عذاب الدنيا تهكما وكناية عن إيقانهم بعدم وقوعه بلازم واحد وإيماء إلى عدم وقوع عذاب الآخرة بلازمين فرد الله عليهم ردا عاما بقوله ( ولئن يخلف الله وعده ) وكان ذلك تثبيتا للمؤمنين . ثم أعقبه بإنذارهم بأن عذاب الآخرة لا يفلتون منه أيضا وهو أشد العذاب .
فقوله ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) خبر مستعمل في التعريض بالوعيد . وهذا اليوم هو يوم القيامة )