والأخذ حقيقته : التناول لما لم يكن في اليد واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم . ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبه انتهاء ذلك الإملاء بالتناول شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في سورة الأنبياء ( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ) مشير إلى سوء عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد . وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا هنالك .
ومناسبة عد قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذكر فيها من أخذوا من الأقوام أن قوم إبراهيم أتم شبها بمشركي قريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه وألجأوه إلى الخروج من موطنه ( قال إني ذاهب إلى ربي سيدين ) فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) مناسبة لذكر قوم إبراهيم .
والإملاء : ترك المتلبس بالعصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نجا ثم يؤخذ بالعقوبة .
والفاء في ( فأمليت للكافرين ) للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل في وقت تكذيبهم وإنما أخر لهم وهو تعقيب موزع فلكل قوم من هؤلاء تعقيب إملائه . والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة فلذلك عطف فعله بحرف المهلة .
وعطفت جملة ( فكيف كان نكير ) بالفاء لأن حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ وهو استفهام تعجيبي أي فاعجب من نكيري كيف حصل . ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة محنة وبالحياة هلاكا وبالعمارة خرابا فهو عبرة لغيرهم .
والنكير : الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي ينكر عليه .
و ( نكير ) " بكرة في آخره " دالة على بناء المتكلم المحذوفة تخفيفا .
وكأن مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن النكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم فإن الله عاقب على المنكر بأشد العقاب فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله وقد قال الحكماء : إن الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم .
( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 45 ] ) تفرع ذكر جملة ( كأين من قرية ) على جملة ( فكيف كان نكير ) فعطفت عليها بفاء التفريع والتعقيب في الذكر لا في الوجود لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها بين كيفية نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع . ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العدد شمولا للأقوام الذين ذكروا من قبل في قوله ( فقد كذبت قبلهم قوم نوح ) إلى آخره فيكون لتلك الجملة بمنزلة التذييل .
و ( كأين ) اسم دال على الإخبار عن عدد كثير .
وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر . والتقدير : كثير من القرى أهلكناها وجملة ( أهلكناها ) الخبر : ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره ( أهلكناها ) . والتقدير : أهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها ( كأين ) بدون حاجة إلى ذكر الاكتفاء بالصدارة الصورية . وعلى الوجه الأول فجملة ( أهلكناها ) في محل جر صفة ل ( قرية ) وجملة ( فهي خاوية ) معطوفة على جملة ( أهلكناها ) وقد تقدم نظيره في قوله ( وكأين من نبي ) في سورة آل عمران .
وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون منهم من ذكر في القرآن مثل عاد وثمود ومنهم من لم يذكر مثل طسم وجديس وآثارهم باقية في اليمامة .
ومعنى ( خاوية على عروشها ) أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار . وجملة ( على عروشها ) خبر ثان عن ضمير ( فهي ) . والمعنى : ساقطة على عروشها أي ساقطة جدرانها فوق سقفها .
A E والعروش : جمع عرش وهو السقف . وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله تعالى ( أو كالذي مر على قرية خاوية على عروشها ) في سورة البقرة