فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم .
والتمكين : التوثيق . وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك والأرض للجنس أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو ملكهم وما بسطت فيه أيديهم . وقد تقدم قوله تعالى ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لك فيها معايش ) في سورة الأعراف وقوله ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) في سورة يوسف : والمراد بالمعروف ما هو مقرر من شؤون الدين : وإما بكونه معروفا للأمة كلها : وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائر الأمة . وإما بكونه معروفا لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومرتب علمائه .
والمنكر : ما شأنه أن ينكر في الدين أي أن لا يرضى بأنه من الدين . وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الديانات كالأعمال المندرجة تحت كليات دينية والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد السريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين .
والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينها بأعتبار أول ما تتوجه إليه نفوس الناس عن مشاهدة الأعمال ولتكون معروفة دليلا على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس .
( ولله عاقبة الأمور [ 41 ] ) عطف على جملة ( ولنصرن الله من ينصره ) أو على جملة ( إن الله لقوي عزيز ) والمآل واحد وهو تحقيق وقوع النصر لأن الذي وعد به لا يمنعه من تحقيق وعده مانع وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر .
والعاقبة : آخر الشيء وما يعقب الحاضر . وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسما . وفي حديث هرقل " ثم تكون لهم العاقبة " .
وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء .
( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود [ 42 ] وقوم إبراهيم وقوم لوط [ 43 ] وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 44 ] ) لما نعى على المشركين مساويهم في شؤون الدين بإشراكهم وإنكارهم البعث وصدهم عن الإسلام وعن المسجد الحرام وما ناسب ذلك في غرضه من إخراج أهله منه عطف هنا إلى ضلالهم بتكذيب النبي A فقصد من ذلك تسلية الرسول ( E ) وتمثيلهم بأمثال الأمم التي استأصلها الله وتهديدهم بالمصير إلى مصيرهم . ونظير هذه الآية إجمالا وتفصيلا تقدم غير مرة في سورة آل عمران وغيرها .
وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله ( فقد كذبت قبلهم ) الخ إذ التقدير : فلا عجب في تكذيبهم أو فلا غضاضة عليك في تكذيب قومك إياك فإن تلك عادة أمثالهم .
وقوم إبراهيم هم الكلدان . وأصحاب مدين هم قوم شعيب . وإنما لم يعبر عنهم بقوم شعيب لئلا يتكرر لفظ قوم أكثر من ثلاث مرات .
وقال ( وكذب موسى ) لأن مكذبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل .
A E وقوله ( فأمليت للكافرين ) معناه فأمليت لهم فوضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذهم هو الكفر بالرسل تعريضا بالنذارة لمشركي قريش