فمن ذلك في الشرائع التغريب والنفي ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخلع . وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكا من الردع غير ذلك .
ولذلك قال تعالى ( بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) فإن إيمانهم بالله لا ينحر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم . فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم .
والاستثناء في قوله ( إلا أن يقولوا ربنا الله ) استثناء من عموم الحق . ولما كان المقصود من الحق حقا يوجب الإخراج . أي الحق عليهم كان هذا الاستثناء مستعملا على طريقة الاستعارة التهكمية . أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يتخيل أنه حق عليهم . وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه . ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم وشاهده قول النابغة : .
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة .
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [ 40 ] ) اعتراض بين جملة ( أذن للذين يقاتلون ) الخ وبين قوله ( الذين إن مكناهم في الأرض ) الخ . فلما تضمنت جملة ( أذن للذين يقاتلون ) الخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذان بالدفاع مع التنويه بهذا الدفاع والمتولين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة . والواو في قوله ( ولولا دفاع الله الناس ) إلى آخره . اعتراضية وتسمى واو الاستئناف . ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة ( أذن للذين يقاتلون ) الخ .
و ( لولا ) حرف امتناع لوجود أي حرف يدل على امتناع جوابه أي انتفائه لأجل وجود شرطه أي عند تحقيق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين . والمعنى : لولا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصري المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوئة لملة الشرك ولهدموا معابدهم من صوامع وبيع وصلوات ومساجد للأديان المخالفة للشرك . فذكر الصوامع والبيع إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتعريف في ( الناس ) تعريف العهد أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل مكة .
ويجوز أن يكون المراد : لولا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك " كما قاتل داودد جالوت . وكما تغلب سليمان على ملكة سبا " . لمحق المشركون معالم التوحيد " كما محق بخنتصر هيكل سليمان " فتكون هذه الجملة تذييلا لجملة ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال فالتعريف في ( الناس ) تعريف الجنس .
وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه إذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع . وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك .
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب ( دفاع ) . وقرأ الباقون ( دفع ) " بفتح الدال وبدون ألف " . و ( بعضهم ) بدل من ( الناس ) بدل بعض . و ( ببعض ) متعلق ب ( دفاع ) والباء للآلة .
والهدم : تقويض البناء وتسقيطه .
A E وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر ( لهدمت ) " بتخفيف الدال " . وقرأه الباقون " بتشديد الدال " للمبالغة في الهدم أي ( لهدمت ) هدما ناشئا عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثرا .
والصوامع : جمع صومعة بوزن فوعلة وهي بناء مستطيل مرتفع يصعد إليه بدرج وبأعلاه بيت كان الرهبان يتخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين . من أجل ذلك سميت الصومعة المنارة . قال امرؤ القيس : .
تضيء الظلام بالعشي كأنها ... منارة ممسي راهب متبتل