وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين : الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته .
فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلامذة أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس : " زين الله محمدا A بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق " آه . ذكره عنه عياض في الشفاء . قلت : يعني أن محمدا A فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه . قالت عائشة " كان خلقه القرآن " . ولهذا خص الله محمدا A في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء وكذلك في القرآن كله قال تعالى ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم ) وقال تعالى ( فبما رحمة من الله لنت لهم أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم لينا . وفي حديث مسلم : أن رسول الله لما شج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهم فقال " إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة " .
وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته . أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى ( للعالمين متعلق ) بقوله ( رحمة ) .
والتعريف في ( العالمين ) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم . والعالم : الصنف من أصناف ذوي العلم أي الإنسان أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى ( الحمد لله رب العالمين ) . فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة إما لأنها لا تتعلق بجميع أحوال المكلفين فالحنيفية شريعة إبراهيم " عليه السلام " كانت رحمة خاصة بحالة الشخص في نفسه وليس فيها تشريع عام وشريعة عيسى " عليه السلام " قريبة منها في ذلك وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدة اقتضتها حكمة الله في سياسة الأمم المشروعة هي لها مثل شريعة التوراة فإنها أوسع الشرائع السالفة لتعلقها بأكثر أحوال الأفراد والجماعات وهي رحمة كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى ( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) فإن كثيرا من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بفروض شاقة مستمرة قال تعالى ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) وقال ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) إلى آيات كثيرة .
لا جرم أن الله تعالى خص الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى فيما حكاه خطابا منه لموسى " عليه السلام " ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ) الآية . ففي قوله تعالى ( وسعت كل شيء ) إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة .
وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم .
فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر . قال تعالى ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وقال تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقال النبي A " بعثت بالحنيفية السمحة " .
A E