والمراد بالقوم العابدين من شأنهم العبادة لا ينحرفون عنها قيد أنملة كما أشعر بذلك جريان وصف العابدين على لفظ ( قوم ) المشعر بأن العبادة هي قوام قوميتهم كما قدمناه عند قوله تعالى ( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) في آخر سورة يونس . فكأنه يقول : فقد أبلغتكم الوعد فاجتهدوا في نواله . والقوم العابدون هم أصحاب رسول الله A وBهم والموجودون يومئذ والذين جاءوا من بعدهم .
والعبادة : الوقوف عند حدود الشريعة . قال تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) . وقد ورثوا هذا الميراث العظيم وتركوه للأمة بعدهم فهم فيه أطوار كشأن مختلف أحوال الرشد والسفه في التصرف في مواريث الأسلاف .
وما أشبه هذا الوعد المذكور هنا ونوطه بالعبادة بالوعد الذي وعدته هذه الأمة في القرآن ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ) .
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 107 ] ) أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد A وتصديق دعوته . فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب حسابهم ووشك حلول وعد الله فيهم وإثبات رسالة محمد A وأنه لم يكن بدعا من الرسل وذكروا إجمالا ثم ذكرت طائفة منهم على التفصيل . وتخلل ذلك بمواعظ ودلائل .
وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكما وعلما وذكر ما أوتوه من الكرامات فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد A . ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها وذلك كونها رحمة للعالمين فهذه الجملة عطف على جملة ( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) ختاما لمناقب الأنبياء وما بينهما اعتراض واستطراد . ولهذه الجملة اتصال بآية ( وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) .
ووزانها في وصف شريعة محمد A وزان آية ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ) وآية ( ولقد آتينا إبراهيم رشده ) والآيات التي بعدها في وصف ما أوتيه الرسل السابقون .
وصيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول A ومدح مرسله تعالى ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه .
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف الذي عطفت به . وذكر فيها الرسول ومرسله والمرسل إليهم والرسالة وأوصاف هؤلاء الأربعة مع إفادة عموم الأحوال واستغراق المرسل إليهم وخصوصية الحصر وتنكير ( رحمة ) للتعظيم ؛ إذ لا مقتضي لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل : إلا لنرحم العالمين أو إلا أنك الرحمة للعالمين . وليس التنكير للإفراد قطعا لظهور أن المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم . فهذه اثنا عشر معنى خصوصيا فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب وهي : .
" قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا : " أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل " دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا غير خصوصية إنما هي وفرة معان . وليس تنكير " حبيب ومنزل " إلا للوحدة لأنه أراد فردا معينا من جنس الأحباب وفردا معينا من جنس المنازل وهما حبييه صاحب ذلك المنزل ومنزله .
واعلم أن انتصاب ( رحمة ) على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفا من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة . ففيه إيماء لصيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة . ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله ويدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي A بقوله " إنما أنا رحمة مهداة " .
A E