والسبق حقيقته : تجاوز الغير في السير إلى مكان معين . ومنه سباق الخيل . واستعمل هنا مجازا في ثبوت الأمن في الماضي يقال كان هذا في العصور السابقة أي التي مضت أزمانها لما بين السبق وبين التقدم في الملازمة أي الذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح من الله أي بتوفيقه وتقديره كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان .
والحسنى : الحالة الحسنة في الدين قال تعالى ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) أو الموعدة الحسنى أي تقرر وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى . وتقدم في سورة يونس .
وذكر الموصول في تعريفهم لأن الموصول للإيماء إلى أن سبب فوزهم هو سبق تقدير الهداية لهم . وذكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف وهو سبق الحسنى من الله .
واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم والرفعة تشبه بالبعد .
وجملة ( لا يسمعون حسيسها ) بيان لمعنى مبعدون أي مبعدون عنها بعدا شديدا بحيث لا يلفحهم حرها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها والصوت يبلغ إلى السمع من أبعد ما يبلغ منه المرئي .
والحسيس : الصوت الذي يبلغ الحس أي الصوت الذي يسمع من بعيد أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتها فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها .
وعقب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم . وجيء فيه بما يدل على العموم وهو ( فيما اشتهت أنفسهم ) وما يدل على الدوام وهو ( خالدون ) .
والشهوة : تشوق النفس إلى ما يلذ لها .
وجملة ( لا يحزنهم الفزع ) خبر ثان عن الموصول .
والفزع : نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم وهو قريب من الجزع والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيؤول إليه أمره فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم .
وذلك مفاد قوله تعالى ( وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) فهؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى هم المراد من الاستثناء في قوله تعالى ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) .
والتلقي : التعرض للشيء عند حلوله تعرض كرامة . والصيغة تشعر بتكلف لقائه وهو تكلف تهيؤ واستعداد .
وجملة ( هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) مقول لقول محذوف أي يقولون لهم : هذا يومكم الذي كنتم توعدون تذكيرا لهم بما وعدوا في الدنيا من الثواب لئلا يحسبوا أن الموعود به يقع في يوم آخر . أي هذا يوم تعجيل وعدكم . والإشارة باسم إشارة القريب لتعيين اليوم وتمييزه بأنه اليوم الحاضر .
وإضافة ( يوم ) إلى ضمير المخاطبين لإفادة اختصاصه بهم وكون فائدتهم حاصلة فيه كقول جرير : .
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... هذا زمانك إني قد خلا زمني أي هذا الزمن المختص بك أي لتتصرف فيه .
( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 104 ] ) جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانه إبطالا لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدعى بعثها قد انتابها الفناء العظيم ( و قالوا أإذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد ) .
والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى ( لهم فيها زفير ) وقوله تعالى ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) الآية .
وقد رتب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة . وأصل الجملة : نعيد الخلق كما بدأنا أول خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعدا علينا . فحول النظم فقدم الظرف بادئ ذي بدء للتشويق إلى متعلقه ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباق إذ جعل ابتداء خلق جديد وهو البعث مؤقتا بوقت نقض خلق قديم وهو طي السماء .
وقدم ( كما بدأنا أول خلق ) وهو حال من الضمير المنصوب في ( نعيده ) للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضل تمكن . وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث فليس قوله ( يوم نطوي السماء ) متعلقا بما قبله من قوله تعالى ( وتتلقاهم الملائكة )