والمسارعة : مستعارة للحرص وصرف الهمة والحد للخيرات أي لفعلها تشبيها للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجاد في مسالكه .
والخيرات : جمع خير " بفتح الخاء وسكون الياء " وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات . والخير ضد الشر فهو ما فيه نفع . وأما قوله تعالى ( فيهن خيرات حسان ) فيحتمل أنه مثل هذا ويحتمل أنه جمع خيرة " بفتح فسكون " الذي هو مخفف خيرة المشدد الياء وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية . وقد تقدم الكلام على ( الخيرات ) في قوله تعالى ( وأولئك لهم الخيرات ) في سورة براءة وعطف على ذلك أنهم يدعون الله رغبة في ثوابه ورهبة من غضبه كقوله تعالى ( يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) .
والرغب والرهب " بفتح ثانيهما " مصدران من رغب ورهب . وهما وصف لمصدر " يدعوننا " لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه أو يقدر مضاف أي ذوي رغب ورهب فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه .
وذكر فعل الكون في قوله تعالى ( وكانوا لنا خاشعين ) مثل ذكره في قوله تعالى ( كانوا يسارعون ) .
والخشوع : خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة .
( والتي أحصنت فرجها فنفحنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 91 ] ) لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيه إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة كما قال الله تعالى ( إن المسلمين والمسلمات ) الآية . هذه هي مريم ابنة عمران . وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصوليه غالبا وأيضا لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقولوا عنها إفكا وزورا وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى ( فنفخنا فيها من روحنا ) الذي هو في حكم الصلة أيضا فكأنه قيل : والتي نفخنا فيها من روحنا لأن كلا الأمرين موجب ثناء . وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيم قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حمل أنثى دون قربان ذكر ليرى الناس مثالا من التكوين الأول كما أشار إليه قوله تعالى ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) .
والنفخ حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين . وأطلق هنا تمثيلا لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيها لهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ . وقد قيل : إن الملك نفخ مما هو له كالفم .
والظرفية المفادة ب ( في ) كون مريم ظرفا لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ولذلك قيل ( فيها ) ولم قيل ( فيه ) للإشارة إلى أن الحمل الذي كون في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد كأنه قيل : فنفخنا في بطنها . وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة .
والروح : هو القوة التي بها الحياة قال تعالى ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) أي جعلت آدم روحا فصار حيا . وحرف ( من ) تبعيضي والمنفوخ روح لأنه جعل بعض روح الله أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة .
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي .
A E وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في سورة المؤمنين ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) . وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو ( والليل إذا يغشى ) ( والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ) .
وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس . وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية علم أن كل واحد آية خاصة . ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة . ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل .
( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [ 92 ] ) ( إن ) مكسورة الهمزة عند جميع القراء . فهي ابتداء كلام . واتفقت القراءات المشهورة على رفع ( أمتكم ) . والأظهر أن الجملة محكية بقول محذوف يدل عليه السياق . وحذف القول في مثله شائع في القرآن