وأعلم أن كلمة ( ننجي ) كتبت في المصاحف بنون واحد كما كتبت بنون واحد في قوله في سورة يوسف ( ننجي من نشاء ) ووجه أبو علي هذا الرسم بأن النون الثانية لما كانت ساكنة وكان وقوع الجيم بعدها يقتضي إخفاءها لأن النون الساكنة تخفي مع الأحرف الشجرية وهي " الجيم والشين والضاد " فلما أخفيت حذفت في النطق فشابه إخفاؤها حالة الإدغام فحذفها كاتب المصحف في الخط لخفاء النطق بها في اللفظ أي كما حذفوا نون ( إن ) مع ( لا ) في نحو ( إلا تفعلوه ) من حيث إنها تدغم في اللام . وقرأ جمهور القراء بإثبات النونين في النطق فيكون حذف إحدى النونين في الخط مجرد تنبيه على اعتبار من اعتبارات الأداء . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم " بنون واحدة وبتشديد الجيم " على اعتبار إدغام النون في الجيم كما تدغم في اللام والراء . وأنكر ذلك عليها أبو حاتم والزجاج وقالا : هو لحن . ووجه أبو عبيد والفراء وثعلب وقراءتها بأن ( ننجي ) سكنت ياؤه ولم تحرك على لغة من يقول بقي ورضي فيسكن الياء كما في قراءة الحسن ( وذروا ما بقي من الربا ) بتسكين ياء ( بقي ) . وعن أبي عبيد والقتبي أن النون الثانية أدغمت في الجيم .
ووجه ابن جني متابعا للأخفش الصغير بأن أصل هذه القراءة : ننجي " بفتح النون الثانية وتشديد الجيم " فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين فصار نجي . وعن بعض النحاة تأويل هذه القراءة بأن نجي فعل مضي مبني للنائب وأن نائب الفاعل ضمير يعود إلى النجاء المأخوذ من الفعل أو المأخوذ من اسم الإشارة في قوله ( وكذلك ) .
وانتصب ( المؤمنين ) على المفعول به على رأى من يجوز إنابة المصدر مع وجود المفعول به . كما في قراءة أبي جعفر ( ليجزى ) " بفتح الزاي " قوما بما كانوا يكسبون " بتقدير ليجزى الجزاء قوما . وقال الزمخشري في الكشاف : إن هذا التوجيه بارد التعسف .
( وزكريا إذ نادى رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين [ 89 ] فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه ) كان أمر زكريا الذي أشار إليه قوله ( إذ نادى ربه ) آية من آيات الله في عنايته بأوليائه المنقطعين لعبادته فخص بالذكر لذلك . والقول في عطف ( وزكريا ) كالقول في نظائره السابقة .
وجملة ( رب لا تذرني فردا ) مبينة لجملة ( نادى ربه ) . وأطلق الفرد على من لا ولد له تشبيها له بالمنفرد الذي لا قرين له . قال تعالى ( وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) ويقال مثله الواحد للذي لا رفيق له قال الحارث بن هشام : .
وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي فشبه من لا ولد بالمفرد لأن الولد يصير أباه كالشفع لأنه كجزء منه . ولا يقال لذي الولد زوج ولا شفع .
وجملة ( وأنت خير الوارثين ) ثناء لتمهيد الإجابة أي أنت الوارث الحق فاقض علي من صفتك العلية شيئا . وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها كما قال أيوب ( وأنت أرحم الراحمين ) ودل ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية سورة مريم ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) حذفت هاته الجملة لدلالة المحكي هنا عليها . والتقدير : يرثني الإرث الذي لا يداني إرثك عبادك أي بقاء ما تركوه في الدنيا لتصرف قدرتك أو يرثني مالي وعلمي وأنت ترث نفسي كلها بالمصير إليك مصيرا أبديا فأرثك خير إرث لأنه أشمل وأبقى وأنت خير الوارثين في تحقق هذا الوصف .
A E وإصلاح زوجه : جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقرا وتقدم ذكر زكريا في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين [ 90 ] ) جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين وما أوتوه من النصر واستجابة الدعوات والإنجاء من كيد الأعداء وما تبع ذلك ابتداء من قوله تعالى ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء ) . فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين . وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب أي ما استحقوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدهم في تحصيلها .
وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبهم وهجيراهم