ومعنى ( فظن أن لن نقدر عليه ) قيل نقدر مضارع قدر عليه أمرا بمعنى ضيق كقوله تعالى ( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) وقوله تعالى ( ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ) أي ظن أن لن نضيق عليه تحتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقط تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهادا منه فعوتب بما حل به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله . وفي الكشاف : أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاوية " لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك . فقال : وما هي ؟ فقرأ معاوية هذه الآية وقال : أو يظن نبي الله أن الله لا يقدر عليه ؟ قال ابن عباس : هذا من القدر لا من القدرة " يعني التضييق عليه .
وقيل ( نقدر ) هنا بمعنى نحكم مأخوذ من القدرة أي ظن أن لن نؤاخذه بخروجه من بين قومه دون إذن . ونقل عن هذا مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية عن ابن عباس واختاره الفراء والزجاج . وعلى هذا يكون يونس اجتهد وأخطأ .
وعلى هذا الوجه فالتفريع تفريع خطور هذا الظن في نفسه بعد أن كان الخروج منه بادرة بدافع الغضب من غير تأمل في لوازمه وعواقبه قالوا : وكان في طبعه ضيق الصدر .
وقيل معنى الكلام على الاستفهام حذفت همزته . والتقدير : أفظن أن لن نقدر عليه ؟ ونسب إلى سليمان بن المعتمر أو أبي المعتمر . قال منذر بن سعيد في تفسيره : وقد قرئ به .
وعندي فيه تأويلان آخران وهما أنه ظن وهو في جوف الحوت أن الله غير مخلصه في بطن الحوت لأنه رأى ذلك مستحيلا عادة وعلى هذا يكون التعقيب بحسب الواقعة أي ظن بعد أن ابتلعه الحوت .
وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده ولذلك قال : ( إني كنت من الظالمين ) مبالغة في اعترافه بظلم نفسه فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف أو أنه ظن بحسب الأسباب المعتادة أنه يهاجر من دار قومه ولم يظن أن الله يعوقه عن ذلك إذ لم يسبق إليه وحي من الله .
و ( إني ) مفسرة لفعل ( نادى ) وتقيمه الاعتراف بالتوحيد مع التسبيح كنى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء .
والظلمات : جمع ظلمة . والمراد ظلمة الليل وظلمة قعر البحر . وظلمة بطن الحوت . وقيل : الظلمات مبالغة في شدة الظلمة كقوله تعالى ( يخرجهم من الظلمات إلى النور ) A E وقد تقدم أنا نظن أن " الظلمة " لم ترد مفردة في القرآن .
والاستجابة : مبالغة في الإجابة . وهي إجابة توبته مما فرط منه . والإنجاء وقع حين الاستجابة إذ الصحيح أنه ما بقى في بطن الحوت إلا ساعة قليلة . وعطف بالواو هنا بخلاف عطف ( فكشفنا ) على ( فاستجبنا ) . وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت حتى خرج الحوت إلى قرب الشاطئ فتقيأه فخرج يسبح إلى الشاطئ .
وهذا الحوت هو من صنف الحوت العظيم الذي يبتلع الأشياء الضخمة ولا يقضمها بأسنانه . وشاع بين الناس تسمية صنف من الحوت بحوت يونس رجما بالغيب .
وجملة ( وكذلك ننجي المؤمنين ) تذييل . والإشارة ب ( كذلك ) إلى الإنجاء الذي أنجى به يونس أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غموم يحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة . وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغم والنكد الذي يلاقونه من سوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم