وجمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لإشراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى ( كل من الصابرين ) . جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب .
فأما صبر إسماعيل " عليه السلام " فقد تقرر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم ( إني أرى في المنام أني إذبحك ) فقال ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) وتقرر بسكناه بواد غير ذي زرع امتثالا لأمر أبيه المتلقى من الله تعالى . وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة .
وأما إدريس فهو اسم " أخنوخ " على إرجح الأقوال . وقد ذكر أخنوخ في التوراة في سفر التكوين جدا لنوح . وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صديق نبي وقد وصفه الله تعالى هنا فليعد في صف الصابرين . والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب . وقد عدت من صبره قصص منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم .
وأما ذو الكفل فهو نبي اختلف في تعيينه, فقيل هو إلياس المسمى في كتب اليهود " إيليا " .
وقيل : هو خليفة اليسع في نبوة بني إسرائيل . والظاهر أنه " عوبديا " الذي له كتاب من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثنى عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار .
والكفل " بكسر الكاف وسكون الفاء " أصله : النصيب من شيء مشتق من كفل إذ تعهد لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع . وذلك أن اليسع لما كبر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال : من يتكفل لي بثلاث أستخلفه : أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب . فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه " عوبديا " وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين . وقد وعد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره " انظر سفر الملوك الأول الإصحاح 18 . ورؤيا عوبديا صفحة 891 من الكتاب المقدس " . وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيا . وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام .
وجملة ( أنهم من الصالحين ) تعليل لإدخالهم في الرحمة وتذييل للكلام يفيد أن تلك سنة الله مع جميع الصالحين .
A E ( وذا النون إذ ذبت مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [ 87 ] فاستتجبنا له ونجيناه من الغم و كذلك ننجي المؤمنين [ 88 ] ) عطف على ( وذا الكفل ) . وذكر ذي النون في جملة من خصوا بالذكر من الأنبياء لأجل ما قصته من الآيات في الالتجاء إلى الله والندم على ما صدر منه من الجزع واستجابة الله تعالى له .
و ( ذو النون ) وصف أي صاحب الحوت . لقب به يونس بن متي " عليه السلام " وتقدمت ترجمته في سورة الأنعام وتقدمت قصته مع قومه في سورة يونس .
وذهابه مغاضبا قيل خروجه غضبان من قومه أهل " نينوى " إذ أبوا أن يؤمنوا بما أرسل إليهم به وهم غاضبون من دعوته فالمغاضبة مفاعلة . وهذا مقتضى المروي عن ابن عباس . وقيل : إنه أوحى إليه أن العذاب نازل بهم بعد مدة فلما أشرفت المدة على الانقضاء آمنوا فخرج غضبان من عدم تحقق ما أنذرهم به فالمغاضبة حينئذ للمبالغة في الغضب لأنه غضب غريب . وهذا مقتضى المروي عن ابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وروي عن ابن عباس أيضا واختاره ابن جرير . والوجه أن يكون " مغاضبا " حالا مرادا بها التشبيه أي خرج كالمغاضب . وسيأتي هذا المعنى في سورة الصافات .
وقوله تعالى ( فظن أن لن نقدر عليه ) يقتضي أنه خرج خروجا غير مأذون له فيه من الله . ظن أنه إذا ابتعد عن المدينة المرسل إليها يرسل الله غيره إليهم . وقد روي عن ابن عباس أن " حزقيال " ملك إسرائيل كان في زمنه خمسة أنبياء منهم يونس فاختاره الملك ليذهب إلى أهل " نينوى " لدعوتهم فأبى وقال : هاهنا أنبياء غيري وخرج مغاضبا الملك . وهذا بعيد من القرآن في آيات أخرى ومن كتب بني إسرائيل .
ومحل العبرة من الآية لا يتوقف على تعيين القصة