ووصفها هنا ب ( عاصفة ) بمعنى قوية . ووصفها في سورة ص بأنها ( رخاء ) في قوله تعالى ( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) . والرخاء : الليلة المناسبة لسير الفلك . وذلك باختلاف الأحوال فإذا أراد الإسراع في السير سارت عاصفة وإذا أراد اللين سارت رخاء والمقام قرينة على أن المراد المواتاة لإرادة سليمان كما دل عليه قوله تعالى ( تجري بأمره ) في الآيتين المشعر باختلاف مقصد سليمان منها كما إذا كان هو راكبا في البحر فإنه يريدها رخاء لئلا تزعجه وإذا أصدرت مملكته بضاعة أو اجتلبتها سارت عاصفة وهذا بين بالتأمل .
وعبر ( بأمره ) عن رغبته وما يلائم أسفار سفائنه وهي رياح موسمية منتظمة سخرها الله له .
وأمر سليمان دعاؤه الله أن يجري الريح كما يريد سليمان : إما دعوة عامة كقوله ( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) فيشمل كل ما به استقامة أمور الملك وتصاريفه وإما دعوة خاصة عند كل سفر لمراكب سليمان فجعل الله الرياح الموسمية في بحار فلسطين مدة ملك سليمان إكراما له وتأييدا إذ كان همه نشر دين الحق في الأرض .
وإنما جعل الله الريح تجري بأمر سليمان ولم يجعلها تجري لسفنه لأن الله سخر الريح لكل السفن التي فيها مصلحة ملك سليمان فإنه كانت تأتيه سفن " ترشيش " " يظن أنها طرطوشة بالأندلس أو قرطجنة بإفريقية " وسفن حيرام ملك صور حاملة الذهب والفضة والعاج والقردة والطواويس وهدايا الآنية والحلل والسلاح والطيب والخيل والبغال كما في الإصحاح 10 من سفر الملوك الأول .
A E وجملة ( وكنا بكل شيء عالمين ) معترضة بين الجمل المسوقة لذكر عناية الله بسليمان . والمناسبة أن تسخير الريح لمصالح سليمان أثر من آثار علم الله بمختلف أحوال الأمم والأقاليم وما هو منها لائق بمصلحة سليمان فيجري الأمور على ما تقتضيه الحكمة التي أرادها سبحانه إذ قال ( وشددنا ملكه ) .
( ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [ 82 ] ) هذا ذكر معجزة وكرامة لسليمان . وهي أن سخر إليه من القوى المجردة من طوائف الجن والشياطين التي تتأتى لها معرفة الأعمال العظيمة من غوص البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ومن أعمال أخرى أجملت في قوله تعالى ( ويعملون عملا دون ذلك ) . وفصل بعضها في آيات أخرى كقوله تعالى ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات ) وهذه أعمال متعارفة . وإنما اختص سليمان بعظمتها مثل بناء هيكل بيت المقدس وبسرعة إتمامها .
ومعنى ( وكنا لهم حافظين ) أن الله بقدرته سخرهم لسليمان ومنعهم عن أن ينفلتوا عنه أو أن يعصوه وجعلهم يعلمون في خفاء ولا يؤذوا أحدا من الناس ؛ فجمع الله بحكمته بين تسخيرهم لسليمان وعلمه كيف يحكمهم ويستخدمهم ويطوعهم وجعلهم منقادين له وقائمين بخدمته دون عناء له وحال دونهم ودون الناس لئلا يؤذوهم . ولما توفي سليمان لم يسخر الله الجن لغيره استجابة لدعوته إذ قال ( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) . ولما مكن الله النبي محمدا A من الجني الذي كاد أن يفسد عليه صلاته وهم بأن يربطه ذكر دعوة سليمان فأطلقه فجمع الله له بين التمكين من الجن وبين تحقيق رغبة سليمان .
وقوله ( لهم ) يتعلق ب ( حافظين ) واللام لام التقوية . والتقدير : حافظينهم أي مانعينهم عن الناس .
( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [ 83 ] فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين [ 84 ] ) عطف على ( داود وسليمان ) أي وآتينا أيوب حكما وعلما إذ نادى ربه . وتخصيصه بالذكر مع من ذكر من الأشياء لما اختص به من الصبر حتى كان مثلا فيه . وتقدمت ترجمة أيوب في سورة الأنعام