وجملة ( وكنا فاعلين ) معترضة بين الإخبار عما أوتيه داود . وفاعل هنا بمعنى قادر لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه . وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل أي وكنا قادرين على ذلك .
( وعلمناه صنعة لبوس لكم ليحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون [ 80 ] ) وامتن الله بصنعه علمها داود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع أي دروع السرد . قيل كانت الدروع من قبل داود ذات حراشف من الحديد فكانت تثقل على الكماة إذا لبسوها فألهم الله داود صنع دروع الحلق الدقيقة فهي أخف محملا وأحسن وقاية .
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داود لابسا درعا حرشفيا فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داود فاستعمل العرب دروع السرد .
واشتهر عند العرب ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله : .
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل .
بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول وكانت الدروع التبعية مشهورة عند العرب فلعل تبعا اقتبسها من بني إسرائيل بعد داود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف وقد جمعها النابغة بقوله : .
وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سليم كل قمصاء ذائل أراد بسليم ترخيم سليمان يعني سليمان بن داوود فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخرا لها .
A E واللبوس " بفتح اللام " أصله اسم لكل ما يلبس فهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول . وغلب إطلاقه على ما يلبس من لامة الحرب من الحديد وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لبوس على الثياب . وقال ابن عطية : اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي .
ومعي لبوس للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاج مجفل وقرأ الجمهور ( ليحصنكم ) بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ ( لبوس ) . وإسناد الإحصان إلى اللبوس إسناد مجازي . وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر " بالمثناة الفوقية " على تأويل معنى ( لبوس ) بالدرع وهي مؤنثة . وقرأ أبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب ( لنحصنكم ) بالنون .
وضمائر الخطاب في ( لكم ليحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ) موجهة إلى المشركين تبعا لقوله تعالى قبل ذلك ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ) لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره .
والإحصان : الوقاية والحماية . والبأس : الحرب .
ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى ( فهل أنتم شاكرون ) مستعملا في استبطاء عدم الشكر ومكنى به عن الأمر بالشكر .
وكان العدول عن إيلاء ( هل ) الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن ل ( هل ) مزيد اختصاص بالفعل فلم يقل : فهل تشكرون وعدل إلى ( فهل أنتم شاكرون ) ليدل العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة نظير قوله تعالى ( فهل أنتم منتهون ) في آية تحريم الخمر .
( ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين [ 81 ] ) عطف على جملة ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ) بمناسبة تسخير خارق للعادة في كلتا القصتين معجزة للنبيين " عليهما السلام " .
والأرض التي بارك الله فيها عي أرض الشام . وتسخير الريح : تسخيرها لما تصلح له . وهو سير المراكب في البحر . والمراد أنها تجري إلى الشام راجعة عن الأقطار التي خرجت إليها لمصالح ملك سليمان من غزو أو تجارة بقرينة أنها مسخرة لسليمان فلا بد أن تكون سائرة لفائدة الأمة التي هو ملكها .
وعلم من أنها تجري إلى الأرض التي بارك الله فيها أنها تخرج من تلك الأرض حاملة الجنود أو مصدرة البضائع التي تصدرها مملكة سليمان إلى بلاد الأرض وتقفل راجعة بالبضائع والميرة ومواد الصناعة وأسلحة الجند إلى أرض فلسطين فوقع في الكلام اكتفاء اعتمادا على القرينة . وقد صرح بما اكتفى عنه هنا في آية سورة سبأ ( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر )