وتشبه هذه القضية قضاء رسول الله A بين الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحرة إذ قضى أول مرة بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره فلما لم يرض الأنصاري قضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل فاستوفى للزبير حقه . وإنما ابتدأ النبي A بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضي بينهما بالفصل فكان قضاء النبي مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان .
فمعنى قوله تعالى ( ففهمناها سليمان ) أنه ألهمه وجها آخر في القضاء أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق . وذلك أنه أرفق بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح والمرجحات لا تنحصر وقد لا تبدو للمجتهد والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به وليتعزى على من فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان . وحسبك أنه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير . وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة .
وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد وفي العمل بالراجح وفي مراتب الترجيح وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المعارض لقوله تعالى ( وكلا آتينا حكما وعلما ) في معرض الثناء عليهما .
A E وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلا في رجوع الحاكم عن حكمه كما قال ابن عطية وابن العربي ؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنة الصحيحة فلا ينبغي أن يكون تأصيلا وأن ما حاولاه من ذلك غفلة .
وإضافة ( حكم ) إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين . وتأنيث الضمير في قوله ( ففهمناها ) ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ على تأويل الحكم في قوله تعالى ( لحكمهم ) بمعنى الحكومة أو الخصومة .
وجملة ( وكلا آتينا حكما وعلما ) تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ أو جورا وإنما كان حكم سليمان أصوب .
وتقدمت ترجمة داود " عليه السلام " عند قوله تعالى ( وآتينا داود زبورا ) في سورة النساء وقوله تعالى ( ومن ذريته داود ) في سورة الأنعام .
وتقدمت ترجمة سليمان " عليه السلام " عند قوله تعالى ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) في سورة البقرة .
( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين [ 79 ] ) هذه مزية اختص بها داود هي تسخير الجبال له وهو الذي بينه جملة ( يسبحن ) فهي إما بيان لجملة ( سخرنا ) أو حال مبينة . وذكرها هنا استطراد وإدماج .
( والطير ) عطف على ( الجبال ) أو مفعول معه أي مع الطير يعني طير الجبال .
و ( مع ) ظرف متعلق بفعل ( يسبحن ) وقدم على متعلقه للاهتمام به لإظهار كرامة داوود فيكون المعنى : أن داود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبال تسبح مثل تسبيحه . وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى ( يا جبال أوبي معه ) إذ التأويب الترجيع مشتق من الأوب وهو الرجوع . وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرد تغريدا مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له . ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلا له بعد أن أوتي النبوة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله ولا يعرف لداود بعد أن أوتي النبوة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان من قبل النبوة راعيا . فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية " زيف " الذي به كهف كان يأوي إليه داود مع أصحابه الملتفين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فارا من الملك شاول " طالوت " حين تنكر له شاول بوشاية بعض حساد داود كما حكي في الإصحاحين 23 - 24 من سفر صمويل الأول . وهذا سر التعبير ب ( مع ) متعلقة بفعل ( سخرنا ) هنا . وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي ( ولسليمان الريح ) إذ عدي فعل التسخير الذي نابت عنه واو العطف بلام الملك . وكذلك جاء لفظ ( مع ) في آية سورة سبأ ( يا جبال أوبي معه ) .
وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده