وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف سلك إيتاء الفرقان والهدي والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم .
وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون ( داود ) عطفا على ( نوحا ) في قوله ( ونوحا ) أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان... إلى آخره ف ( إذ يحكمان ) متعلق ب ( آتينا ) المحذوف أي كان وقت حكمهما في قضية الحرث مظهرا من مظاهر حكمهما وعملهما .
والحكم : الحكمة وهو النبوة . والعلم : أصالة الفهم . ( وإذ نفشت ) متعلق ب ( يحكمان ) .
فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء والجمع بين المصالح والتفاصيل بين مراتب الاجتهاد واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلا للمحق . فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل .
A E وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس وكان ابنه سليمان حينئذ يافعا فكان يجلس خارج باب بيت القضاء . فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم والآخر راعي غنم لجماعة فدخلت الغنم الحرث ليلا فأفسدت ما فيه فقضى داود أن تعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فقص أمرهما على سليمان فقال : لو كنت أنا قاضيا لحكمت بغير هذا . فبلغ ذلك داود فأحضره وقال له : بماذا كنت تقضي ؟ قال : إني رأيت ما هو أرفق بالجميع . قال : وما هو ؟ قال : أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم ويصلحه عاما كاملا حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلم أراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له . فقال داود : وفقت يا بني . وقضى بينهما بذلك .
فمعنى ( نفشت فيه ) دخلته ليلا قالوا : والنفش الانفلات للرعي ليلا . وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى ( غنم القوم ) . وكذلك كان الحرث شركة بين أناس . كما يؤخذ مما أخرجه ابن كثير في تفسيره عن مسروق من رواية ابن أبي حاتم . وهو ظاهر تقرير الكشاف . وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث .
واعلم أن مقتضى عطف داود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله ( وكنا لحكمهم شاهدين ) أي عالمين وقوله تعالى ( وكلا آتينا حكما وعلما ) ومقتضى وقوع الحكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد إذ أن الحكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أوتيه داود وسليمان فلذلك من القضاء بالاجتهاد . وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا A ووقوعه في مختلف المسائل .
وقد كان قضاء داود حقا لأنه مستند إلى غرم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم وأصل الغرم أن يكون تعويضا ناجزا فكان ذلك القضاء حقا . وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي .
وكان حكم سليمان حقا لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين فهو يشبه الصلح . ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب وقد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داود إذ ليس الإرفاق بواجب .
ونظير ذلك قضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من " العريض " على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال لمحمد بن مسلمة : لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع ؟ فقال محمد : لا والله فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك ففعل الضحاك .
وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما فكان قضاء سليمان أرجح