وهذه البينة هي محمد A وكتابه القرآن لأن الرسول موعود به في الكتب السالفة ولأن في القرآن تصديقا لما في تلك الكتب من أخبار الأنبياء ومن المواعظ وأصول التشريع . وقد جاء به رسول أمي ليس من أهل الكتاب ولا نشأ في قوم أهل علم ومزاولة للتاريخ مع مجيئه بما هو أوضح من فلق الصبح من أخبارهم التي لم يستطع أهل الكتاب إنكارها قال تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) وكانوا لا يحققون كثيرا منها بما طرأ عليهم من التفرق وتلاشي أصول كتبهم وإعادة كتابة كثير منها بالمعنى على حسب تأويلات سقيمة .
وأما القرآن فما حواه من دلائل الصدق والرشاد وما امتاز به عن سائر الكتب من البلاغة والفصاحة البالغتين حد الإعجاز وهو ما قامت به الحجة على العرب مباشرة وعلى غيرهم استدلالا . وهذا مثل قوله تعالى ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) .
وقرأ نافع وحفص وابن جاز عن أبي جعفر ( تأتهم ) " بتاء المضارع للمؤنث " . وقرأه الباقون بتحتية المذكر لأن تأنيث ( بينة ) غير حقيقي وأصل الإسناد التذكير لأن التذكير ليس علامة ولكنه الأصل في الكلام .
( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آيتك من قبل أن نذل ونخزى [ 134 ] ) الذي يظهر أن جملة ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ) معطوفة على جملة ( أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) وأن المعنى على الارتقاء في الاستدلال عليهم بأنهم ضالون حين أخروا الإيمان بما جاء به محمد A وجعلوه متوقفا على أن يأتيهم بآية من ربه لأن ما هم متلبسون به من الإشراك بالله ضلال بين قد حجبت عن إدراك فساده العادات واشتغال البال بشؤون دين الشرك فالإشراك وحده كاف في استحقاقهم العذاب ولكن الله رحمهم فلم يؤاخذهم به إلا بعد أن أرسل إليهم رسولا يوقظ عقولهم . فمجيء الرسول بذلك كاف في استدلال العقول على فساد ما هم فيه فكيف يسألون بعد ذلك إتيان الرسول لهم بآية على صدقه فيما دعاهم إليه من نبذ الشرك لو سلم لهم جدلا أن ما جاءهم من البينة ليس هو بآية فقد بطل عذرهم من أصله وهو قولهم ( ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ) . وهذا كقوله تعالى ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فأتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) . فالضمير في قوله ( من قبله ) عائد إلى القرآن الذي الكلام عليه أو على الرسول باعتبار وصفه بأنه بينة أو على إتيان البينة المأخوذ من ( أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) .
A E وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بوحدانية خالق الخلق يقتضيه العقل لولا حجب الضلالات والهوى وأن مجيء الرسل لإيقاظ العقول والفطر وأن الله لا يؤاخذ أهل الفترة على الإشراك حتى يبعث إليهم رسولا وأن قريشا كانوا أهل فترة قبل بعثة محمد A .
ومعنى ( لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ) : أنهم يقولون ذلك يوم الحساب بعد أن أهلكهم الله الإهلاك المفروض لأن الإهلاك بعذاب الدنيا يقتضي أنهم معذبون في الآخرة .
و ( لولا ) حرف تحضيض مستعمل في اللوم أو الاحتجاج لأنه قد فات وقت الإرسال فالتقدير : هلا كنت أرسلت إلينا رسولا .
وانتصب ( فنتبع ) على جواب التحضيض باعتبار تقدير حصوله فيما مضى .
والذل : الهوان . والخزي : الافتضاح أي الذل بالعذاب .
والخزي في حشرهم مع الجناة كما قال إبراهيم " عليه السلام " " ولا تخزني يوم يبعثون " .
( قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى [ 135 ] )