واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات لأن السر أخفى الأنبياء عن علم الناس في العادة . ولما جاء القرآن مذكرا بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ؟ وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا ( أي وهو بعيد عنا ) فإنه يسمع إذا أخفينا . فأنزل الله تعالى ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا قلوبكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون ) . وقد كثر في القرآن أن الله يعلم ما يسر الناس وما يعلنون ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرت الآية الآنفة الذكر وقال تعالى ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه إلا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ) .
يبقى النظر في توجيه الإتيان بهذا الشرط بطريقة الاعتراض وتوجيه اختيار فرض الشرط بحالة الجهر دون حالة السر مع أن الذي يتراءى للناظر أن حالة السر أجدر بالذكر في مقام الإعلام بإحاطة علم الله تعالى بما لا يحيط به علم الناس كما ذكر في الخبر المروي عن ابن مسعود في الآية الآنفة الذكر .
وأحسب لفرض الشرط بحالة الجهر بالقول خصوصية بهذا السياق اقتضاها اجتهاد النبي A في الجهر بالقرآن في الصلاة أو غيرها فيكون مورد هذه الآية كمورد قوله تعالى ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ) فيكون هذا مما نسخة قوله تعالى ( فاصدع بما تؤمر ) وتعليم للمسلمين باستواء الجهر والسر في الدعاء وإبطال لتوهم المشركين أن الجهر أقرب إلى علم الله من السر كما دل عليه الخبر المروي عن أبي مسعود المذكور آنفا .
والقول : مصدر وهو تلفظ الإنسان بالكلام فيشمل القراءة والدعاء والمحاورة والمقصود هنا ما له مزيد مناسبة بقوله تعالى ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) الآيات .
وجواب شرط ( وإن تجهر بالقول ) محذوف يدل عليه قوله ( فإنه يعلم السر وأخفى ) . والتقدير : فلا تشق على نفسك فإن الله يعلم السر وأخفى . أي فلا مزية للجهر به .
وبهذا تعلم أن ليس مساق الآية لتعليم الناس كيفية الدعاء فقد ثبت في السنة الجهر بالدعاء والذكر فليس من الصواب فرض تلك المسألة هنا إلا على معنى الإشارة .
A E وأخفى : اسم تفضيل وحذف المفضل عليه لدلالة المقام عليه أي وأخفى من السر . والمراد بأخفى منه : ما يتكلم اللسان من حديث النفس ونحوه من الأصوات التي هي أخفى من كلام السر .
( الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى [ 8 ] ) تذييل لما قبله لأن ما قبله تضمن صفات من فعل الله تعالى ومن خلقه ومن عظمته فجاء هذا التذييل بما يجمع صفاته .
واسم الجلالة خبر لمبتدأ محذوف . والتقدير : هو الله جريا على ما تقدم عند قوله تعالى ( الرحمان على العرش استوى ) .
وجملة ( لا إله إلا هو ) حال من اسم الجلالة . وكذلك جملة ( له الأسماء الحسنى ) .
والأسماء : الكلمات الدالة على الاتصاف بحقائق . وهي بالنسبة إلى الله : إما علم وهو اسم الجلالة خاصة . وإما وصف مثل الرحمان والجبار وبقية الأسماء الحسنى .
وتقديم المجرور في قوله ( له الأسماء الحسنى ) للاختصاص . أي لا لغيره لأن غيره إما أن يكون اسمه مجردا من المعاني المدلولة للأسماء مثل الأصنام وإما أن تكون حقائقها فيه غير بالغة منتهى كمال حقيقتها كاتصاف البشر بالرحمة والملك وإما أن يكون الاتصاف بها كذبا لا حقيقة كاتصاف البشر بالكبر إذ ليس أهلا للكبر والجبروت والعزة .
ووصف ( الأسماء ) ب ( الحسنى ) لأنها دالة على حقائق كاملة بالنسبة إلى المسمى بها تعالى وتقدس . وذلك ظاهر في غير اسم الجلالة وأما في اسم الجلالة الذي هو الاسم العلم فلأنه مخالف للأعلام من حيث إنه في الأصل وصف دال على الانفراد بالإلهية لأنه دال على الإله وعرف باللام الدالة على انحصار الحقيقة عنده . فكان جامعا لمعنى وجوب الوجود واستحق العبادة لوجود أسباب استحقاقها عنده