وحسن التعبير بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو مما يستوي عليه في المتعارف . فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى فالآية من المتشابه البين تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة : أن ليس كمثله شيء .
وقيل : الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء . وأنشدوا قول الأخطل : .
قد استوى بشر على العراق ... بغير سيف ودم مهراق وهو مولد . ويحتمل أنه تمثيل كالآية . ولعله انتزعه من هذه الآية .
وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى ( ثم استوى على العرش ) في سورة الأعراف . وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية .
وفي تقييد الأبي على تفسير ابن عرفة : واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة . قيل لابن عرفة : عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها فذكر النبي A دليل على عدم تكفير من يقول بالتجسيم فقال : هذا صعب ولكن تجاسرت على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك .
وأتبع ما دل على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريرا وهو جملة ( له ما في السماوات ) الخ . فهي بيان لجملة ( الرحمان على العرش استوى ) . والجملتان تدلان على عظيم قدرته لآن ذلك هو المقصود من سعة السلطان .
وتقديم المجرور في قوله ( له ما في السماوات ) للقصر ردا على زعم المشركين أن لآلهتهم تصرفات في الأرض وأن للجن اطلاعا على الغيب ولتقرير الرد ذكرت أنحاء الكائنات وهي السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى .
A E والثرى : التراب . وما تحته : هو باطن الأرض كله .
وجملة ( له ما في السماوات ) عطف على جملة ( على العرش استوى ) .
( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 7 ] ) عطف على جملة ( له ما في السماوات وما في الأرض ) لدلالة هذه الجملة على سعة علمه تعالى كما دلت الجملة المعطوف عليها على عظيم سلطانه وقدرته . وأصل النظم : ويعلم السر وأخفى إن تجهر بالقول ؛ فموقع قوله ( وإن تهجر بالقول ) موقع الاعتراض بين جملة ( يعلم السر وأخفى ) وجملة ( الله لا إله إلا هو ) . فصيغ النظم في قالب الشرط والجزاء زيادة في تحقيق حصوله على طريقة ما يسمى بالمذهب الكلامي وهو سوق الخبر في صيغة الدليل على وقوعه تحقيقا له .
والمعنى : أنه يعلم السر وأخفى من السر في الأحوال التي يجهر فيها القائل بالقول لإسماع مخاطبه أي فهو لا يحتاج إلى الجهر لأنه يعلم السر وأخفى . وهذا أسلوب متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة . وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق كقول أبي كبير الهذيلي : .
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل أي سهدا في كل وقت حين ينام غيره ممن هو هوجل . وقول بشامة بن حزن النهشلي : .
إذا الكماة تنحو أن يصيبهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا وقول إبراهيم بن كنيف النبهاني : .
فإن تكن الأيام جالت صروفها ... ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل .
فما لينت منا قناة صليبة ... وما ذللتنا للتي ليس تجمل وقول القطامي : .
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا فالخطاب في قوله ( وإن تجهر ) يجوز أن يكون خطابا للنبي A وهو يعم غيره . ويجوز أن يكون لغير معين ليعم كل مخاطب