وجملة ( إنه كان وعده مأتيا ) تعليل لجملة ( التي وعد الرحمان عباده بالغيب ) أي يدخلون الجنة وعدا من الله واقعا . وهذا تحقيق للبشارة .
والوعد : هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول . وهو من باب كسا فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن فالجنات لهم موعودة من ربهم .
والمأتي : الذي يأتيه غيره وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب تشبيها لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه وتشبيها للشيء المحصل بالمكان المقصود . ففي قوله ( مأتيا ) تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأن المأتي لا بد له من آت .
وجملة ( لا يسمعون فيها لغوا ) حال من ( عباده ) .
واللغو : فضول الكلام وما لا طائل تحته . وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة كما قال تعالى ( لا تسمع فيها لاغية ) وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم .
وقوله ( إلا سلاما ) استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقول النابغة : .
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب أي لكن تسمعون سلاما قال تعالى ( وتحيتهم فيها سلام ) وقال ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) .
والرزق : الطعام .
وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر . وتقديم الظرف للاهتمام بأنهم وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص .
والبكرة : النصف الأول من النار والعشي : النصف الأخير والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر الليل .
وجملة ( تلك الجنة ) مستأنفة ابتدائية واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويها بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويها بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى ( أعدت للمتقين ) .
و ( نورث ) نجعل وارثا أي نعطي الإرث . وحقيقة الإرث : انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيد بحالة . واستعير هنا للعطية المدخرة لمعطاها تشبيها بمال لموروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر .
وقرأ الجمهور ( نورث ) بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء . وقرأه رويس عن يعقوب : نورث بفتح الواو وتشديد الراء من ورثه المضاعف .
( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا [ 64 ] ) موقع هذه الآية هنا غريب . فقال جمهور المفسرين : إن سبب نزولها أن جبريل عليه السلام أبطأ أياما عن النزول إلى النبي A وأن النبي ود أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل : " ألا تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) إلى آخر الآية أي إلى قوله ( نسيا ) رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس . وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا . ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها .
والمعنى : أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جوابا عنه فالنظم نظم القرآن بتقدير : وقل ما نتنزل إلا بأمر ربك أي قل يا جبريل فكان هذا خطابا لجبريل ليبلغه إلى النبي A قرآنا . فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب وأمر الله رسوله أن يقرأها هنا ولأنها نزلت لتكون من القرآن .
ولا شك أن النبي A قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن .
والضمير لجبريل والملائكة أعلم الله نبيه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلا عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرسل قال تعالى ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) .
و ( نتنزل ) مرادف ننزل وأصل التنزل : تكلف النزول . فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلف قال تعالى ( تنزل الملائكة والروح فيها )