( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا [ 59 ] إلا من تاب وآمن وعمل صلحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا [ 60 ] جنت عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا [ 61 ] لا يسمعون فيها لغوا إلا سلما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا [ 62 ] تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 63 ] ) فرع على الثناء عليهم اعتبار وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخلف .
والخلف بسكون اللام عقب السوء وبفتح اللام عقب الخير . وتقدم عند قوله تعالى ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ) في سورة الأعراف .
وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلت لأنها راجعة في النسب إلى إدريس جد نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضا إلى إبراهيم ؛ فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب . ومنهم من يدلي إليه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل .
ولفظ ( من بعدهم ) يشمل طبقات وقرونا كثيرة ليس قيدا لأن الخلف لا يكون إلا من بعد أصله وإنما ذكر لاستحضار ذهاب الصالحين .
والإضاعة : مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العرض النفيس فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم مما هو فساد . وتقدم قوله تعالى ( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) في الكهف .
والصلاة : عبادة الله وحده .
وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق فالشرك إضاعة للصلاة لأنه انصراف عن الخضوع لله تعالى فالمشركون أضاعوا الصلاة تماما قال تعالى ( قالوا لم نك من المصلين ) والشرك : اتباع للشهوات لأن المشركين اتبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل وهؤلاء هم المقصود هنا وغير المشركين كاليهود والنصارى فرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها ويشمل ذلك كله اسم الغي .
والغي : الضلال ويطلق على الشر كما أطلق ضده وهو الرشد على الخير في قوله تعالى ( أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) وقوله ( قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ) . فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيهم كقوله تعالى ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) أي جزاء الآثام . وتقدم الغي في قوله تعالى ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ) وقوله ( وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ) كلاهما في سورة الأعراف . وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله ( فأولئك يدخلون الجنة ) .
وحرف ( سوف ) دال على أن لقاءهم الغي متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيرا لهم من الإصرار على ذلك .
وقوله ( فأولئك ويدخلون الجنة ) جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيها لهم للترغيب في توبتهم من الكفر . وجيء بالمضارع الدال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يمطلون في الجزاء . والجنة : علم لدار الثواب والنعيم . وفيها جنات كثيرة كما ورد في الحديث : " أو جنة واحدة هي أنها لجنان كثيرة " .
والظلم : هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل كقوله ( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) في سورة الكهف .
وشيء : اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم .
وذكر ( شيئا ) في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعا لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان بظن أن سبق الكفر يحط من حسن مصيرهم .
و ( جنات ) بدل من ( الجنة ) . جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال .
و ( عدن ) : الخلد والإقامة أي جنات خلد ووصفها ب ( التي وعد الرحمان عباده ) لزيادة تشريفها وتحسينها وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان .
والغيب : مصدر غاب فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب .
وتقدم في قوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ) في أول البقرة .
والباء في ( بالغيب ) للظرفية أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم أي في الأزل إذ خلقها لهم قال تعالى ( أعدت للمتقين ) . وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم .
A E