وجملة ( إن الشيطان كان للرحمن عصيا ) تعليل للنهي عن عبادته وعبادة آثار وسوسته بأنه شديد العصيان للرب الواسع الرحمة . وذكر وصف ( عصيا ) الذي هو من صيغ المبالغة في العصيان مع زيادة فعل ( كان ) للدلالة على أنه لا يفارق عصيان ربه وأنه متمكن منه فلا جرم أنه لا يأمر إلا بما ينافي الرحمة أي بما يفضي إلى النقمة ولذلك اختير وصف الرحمان من بين صفات الله تعالى تنبيها على أن عبادة الأصنام توجب غضب الله فتفضي إلى الحرمان من رحمته فمن كان هذا حاله فهو جدير بأن لا يتبع .
A E وإظهار اسم الشيطان في مقام الإضمار إذ لم يقل : إنه كان للرحمن عصيا لإيضاح إسناد الخبر إلى المسند إليه ولزيادة التنفير من الشيطان لأن في ذكر صريح اسمه تنبيها إلى النفرة منه ولتكون الجملة موعظة قائمة بنفسها . وتقدم الكلام على ( يا أبت ) قريبا .
( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا [ 45 ] ) لا جرم أنه لما قرر أن عبادته الأصنام اتباع لأمر الشيطان عصي الرحمان انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحل به عذاب من الله فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمال حالهم .
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحل به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة عبر عن الجلالة بوصف الرحمان للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته من شأنه سعة الرحمة .
والولي : الصاحب والتابع ومن حالهما حال واحد وأمرهما جميع فكني بالولاية عن المقارنة في المصير .
والتعبير بالخوف الدال على الظن دون القطع تأدب مع الله تعالى بأن لا يثبت أمرا فيما هو من تصرف الله وإبقاء للرجاء في نفس أبيه لينظر في التخلص من ذلك العذاب بالإقلاع عن عبادة الأوثان .
ومعنى ( فتكون للشيطان وليا ) فتكون في اتباع الشيطان في العذاب .
وتقدم الكلام على ( يا أبت ) قريبا .
( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا [ 46 ] ) فصلت جملة ( قال ) لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ) في سورة البقرة .
والاستفهام للإنكار إنكارا لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم .
وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه .
وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعنجهية بعكس ما في كلام إبراهيم من اللين والرقة فدل ذلك على أنه كان قاسي القلب بعيد الفهم شديد التصلب في الكفر .
وجملة ( أراغب أنت ) جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سد مسد الخبر على اصطلاح النحاة طردا لقواعد التركيب اللفظي ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانيا بعد الوصف فاعلا سادا مسد الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدإ حكم المسند . فمن اجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلب جملة اسمية للدلالة على ثبات المسند إليه ويتطلب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به فيلتجئ البليغ إلى الإتيان بالوصف أول والإتيان بالاسم ثانيا .
ولما بلغ الوصف له عمل فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقة في الأسماء واعتباره مع ذلك متطلبا فاعلا وجعلوا فاعله سادا مسد الخبر فصار للتركيب شبهان . والتحقيق أنه في قوة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر . ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال " قدم الخبر على المبتدأ في قوله ( أراغب أنت عن آلهتي ) لأنه كان أهم عنده وهو به أعني اه . ولله دره وإن ضاع بين أكثر الناظرين دره . فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عجب .
والنداء في قوله ( يا إبراهيم ) تكملة لجملة الإنكار والتعجب لأن المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله كأنه عن إدراك فعله فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه فينبغي الوقف على قوله ( يا إبراهيم )