قال : وفي النداء بقوله ( يا أبت ) أربع مرات تكرير اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب . ونظر ذلك بتكرير لقمان قوله ( يا بني ) ثلاث مرات قال : بخلاف قول نوح لابنه ( يا بني اركب معنا ) مرة واحدة دون تكرير لأن ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز . انتهى كلامه بما يقارب لفظه .
A E وأقول : الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته كما أشار إليه صاحب الكشاف ومكنى به عن نفي العلة المسؤول عنها بقوله ( لم تعبد ) فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام .
و ( أبت ) : أصله أبي حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضا على غير قياس وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة ولعله صيغة باقية من العربية القديمة . ورأى سيبويه أن التاء تصبر في الوقف هاء وخالفه الفراء فقال : ببقائها في الوقف . والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ( يا أبت ) بفتح التاء دون ألف بعدها بناء على أنهم يقولون ( يا أبتا ) بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفا وبقاء الفتحة .
( يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا [ 43 ] ) إعادة ندائه بوصف الأبوة تأكيد لإحضار الذهن ولإمحاض النصيحة المستفاد من النداء الأول . قال في الكشاف : " ثم ئني بدعوته إلى الحق مترفقا به متطلقا فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم ليست معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه " اه . ذلك أن أباه كان يرى نفسه على علم عظيم لأنه كان كبير ديانة قومه . وأراد إبراهيم علم الوحي والنبوءة .
وتفريع أمره بأن يتبعه على الإخبار بما عنده من العلم دليل على أن أحقية العالم بأن يتبع مركوزة في غريزة العقول لم يزل البشر يتقصون مظان المعرفة والعلم لجلب ما ينفع واتقاء ما يضر قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
وفي قوله ( أهدك صراطا سويا ) استعارة مكنية شبه إبراهيم بهادي الطريق البصير بالثنايا وإثبات الصراط السوي قرينة التشبيه وهو أيضا استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق البصير بالثناية وإثبات الصراط السوي قرينة التشبيه وهو أيضا استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق المستقيم المبلغ إلى المقصود .
و ( يا أبت ) تقدم الكلام على نظيره قريبا .
( يا ؟ أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ 44 ] ) إعادة النداء لزيادة تأكيد ما أفاده النداء الأول والثاني . والمراد بعبادة الشيطان عبادة الأصنام عبر عنها بعبادة الشيطان إفصاحا عن فسادها وضلالها فإن نسبة الضلال والفساد إلى الشيطان مقررة في نفوس البشر ولكن الذين يتبعونه لا يفطنون إلى حالهم ويتبعون وساوسه تحت ستار التمويه مثل قولهم ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ففي الكلام إيجاز لأن معناه : لا تعبد الأصنام لأن اتخاذها من تسويل الشيطان للذين اتخذوها ووضعوها للناس وعبادتها من وساوس الشيطان للذين سنوا سنن عبادتها ومن وساوسه للناس الذين أطاعوهم في عبادتها فمن عبد الأصنام فقد عبد الشيطان وكفى بذلك ضلالا معلوما .
وهذا كقوله تعالى ( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ) . وتقدم في سورة النساء . وفي هذا تبغيض لعبادة الأصنام لأن في قرارة نفوس الناس بغض الشيطان والحذر من كيده