A E وقد جرى سرد خبر إبراهيم عليه السلام على أسلوب سرد قصة مريم عليه السلام لما في كل من الأهمية كما تقدم .
وتقدم تفسير ( واذكر في الكتاب ) في أول قصة مريم .
و ( الصديق ) بتشديد الدال صيغة مبالغة في الاتصاف مثل الملك الضليل لقب امرئ القيس وقولهم : رجل مسيك أي شحيح ومنه طعام حريف ويقال : دليل خريت إذ كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز مشتقا من الخرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره . وتقدم في قوله تعالى ( يوسف أيها الصديق ) . وصف إبراهيم بالصديق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذرا للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها كما في قول تأبط شرا .
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك وتأكيد هذا الخبر بحرف التوكيد وبإقحام فعل الكون للاهتمام بتحقيقه زيادة في الثناء عليه .
وجملة ( إنه كان صديقا نبيا ) واقعة موقع التعليل للاهتمام بذكره في التلاوة وهذه الجملة معترضة بين المبدل منه والبدل فإن ( إذا ) اسم زمان وقع بدلا من إبراهيم أي اذكر ذلك خصوصا من أحوال إبراهيم فإنه أهم ما يذكر فيه لأنه مظهر صديقيته إذ خاطب أباه بذلك الإنكار .
والنبي : فعيل بمعنى مفعول من أنبأه بالخبر . والمراد هنا أنه منبأ من جانب الله تعالى بالوحي . والأكثر أن يكون النبي مرسلا للتبليغ وهو معنى شرعي فالنبي فيه حقيقة عرفية . وتقدم في سورة البقرة عند قوله ( إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا ) فدل ذلك على أن قوله لأبيه ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) إنما كان عن وحي من الله ليبلغ قومه إبطال عبادة الأصنام .
وقرأ الجمهور ( نبيا ) بياء مشددة بتخفيف الهمزة ياء لثقلها ولمناسبة الكسرة . وقرأه نافع وحده ( نبيا ) بهمزة آخره . وبذلك تصير الفاصلة القرآنية على حرف الألف ومثل تلك الفاصلة كثير في فواصل القرآن .
وقوله ( إذ قال لأبيه ) الخ... بدل اشتمال من إبراهيم . و ( إذ ) اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن ( إذ ) ظرف متصرف على التحقيق . والمعنى : اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر .
وأبو إبراهيم هو ( آزار ) تقدم ذكره في سورة الأنعام .
وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصدا لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه .
قال الجد الوزير رحمة الله فيما أملاه علي ذات ليلة من عام 1318ه فقال : " علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة وألقى إليه حجة فساد عبادته فيصوره الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطىء منبها على خطئه عندما بتأمل في عمله فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالا ففطن بخطل رأيه وسفاهة حلمه فإنه لو عبد حيا مميزا لكانت له شبهة ما . وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحس إذ قال له ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) فذلك حجة محسوسة ثم أتبعها بقوله ( ولا يغني عنك شيئا ) ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله ( يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ) فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان ثم ألقي إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله ( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا ) أي أن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني فإن كنت لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإن أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها . وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي ( رض ) : .
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجسام قلت : إليكما .
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما