والمراد بالأحزاب أحزاب النصارى لأن الاختلاف مؤذن بأنهم كانوا متفقين ولم يكن اليهود موافقين النصارى في شيء من الدين . وقد كان النصارى على قول واحد على التوحيد في حياة الحواريين ثم حدث الاختلاف في تلاميذهم . وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى ( فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ) في سورة النساء أن الاختلاف انحل إلى ثلاثة مذاهب : الملكانية " وتسمى الجاثليقية " واليعقوبية والنسطورية . وانشعبت من هذه الفرق عدة فرق ذكرها الشهرستاني ومنها الأليانة والبليارسية والمقدانوسية والسبالية والبوطينوسية والبولية إلى فرق أخرى . منها فرقة كانت في العرب تسمى الركوسية ورد ذكرها في الحديث " أن النبي A قال لعدي بن حاتم : إنك ركوسي " . قال أهل اللغة هي نصرانية مشوبة بعقائد الصابئه . وحدثت بعد ذلك فرقة الاعتراضية " البروتستان " أتباع " لوثير " . وأشهر الفرق اليوم هي الملكانية " كاثوليك " واليعقوبية " أرثودوكس " والاعتراضية " البروتستان " . ولما كان اختلافهم قد انحصر في مرجع واحد يرجع إلى إلهية عيسى اغترارا وسوء فهم في معنى لفظ " ابن " الذي ورد صفة للمسيح في الأناجيل مع أنه قد وصف بذلك فيها أيضا أصحابه . وقد جاء في التوراة أيضا " أنتم أبناء الله " . وفي إنجيل متى الحواري وإنجيل يوحنا الحواري كلمات صريحة في أن المسيح ابن إنسان وأن الله إلهه وربه فقد انحصرت مذاهبهم في الكفر بالله فلذلك ذيل بقوله ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) فشمل قوله ( الذين كفروا ) هؤلاء المخبر عنهم من النصارى وشمل المشركين غيرهم .
والمشهد صالح لمعان وهو أن يكون مشتقا من المشاهدة أو من الشهود ثم إما أن يكون مصدرا ميميا في المعنيين أو اسم مكان لهما أو اسم زمان لهما أي يوم فيه ذلك وغيره .
والويل حاصل لهم في الاحتمالات كلها وقد دخلوا في عموم الذين كفروا بالله أي نفوا وحدانيته فدخلوا في زمرة المشركين لا محالة ولكنهم أهل كتاب دون المشركين .
( أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلل مبين [ 38 ] ) ( أسمع بهم وأبصر ) صيغتا تعجب وهو تعجب على لسان الرسول والمؤمنين أو هو مستعمل في التعجيب والمعنيان متقاربان وهو مستعمل كناية أيضا عن تهديدهم ؛ فتعين أن التعجيب من بلوغ حالهم في السوء مبلغا يتعجب من طاقتهم على مشاهدة مناظره وسماع مكارهه . والمعنى ؛ ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم أي ما أقدرهم على السمع والبصر بما يكرهونه . وقريب هو من معنى قوله تعالى ( فما أصبرهم على النار ) .
وجوز أن يكون ( أسمع بهم وأبصر ) غير مستعمل في التعجب بل صادف أن جاء على صورة فعل التعجب وإنما هو على أصل وضعه أمر للمخاطب غير المعين بأن يسمع ويبصر بسببهم ومعمول السمع والبصر محذوف لقصد التعميم ليشمل كل ما يصح أن يسمع وأن يبصر . وهذا كناية عن التهديد .
وضمير الغائبين عائد إلى الذين كفروا أي أعجب بحالهم يومئذ من نصارى وعبدة الأصنام .
والاستدراك الذي أفاده قوله ( لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ) راجع إلى ما يفيده التقييد بالظرف في قوله ( يوم يأتوننا ) من ترقب سوء حالهم يوم القيامة الذي يقتضي الظن بأنهم الآن في سعة من الحال .
فأقيد أنهم متلبسون بالضلال المبين وهو من سوء الحال لهم لما يتبعه من اضطراب الرأي والتباس الحال على صاحبه . وتلك نكتة التقييد بالظرف في قوله ( اليوم في ضلال مبين ) .
والتعبير عنهم ب ( الظالمون ) إظهار في مقام الإضمار . ونكتته التخلص إلى خصوص المشركين لأن اصطلاح القرآن إطلاق الظالمين على عبدة الأصنام وإطلاق الظلم على عبادة الأصنام قال تعالى ( إن الشرك لظلم عظيم ) .
( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون [ 39 ] ) عقب تحذيرهم من عذاب الآخرة والنداء على سوء ضلالهم في الدنيا بالأمر بإنذارهم استقصاء في الإعذار لهم .
والضمير عائد إلى الظالمين وهم المشركون من أهل مكة وغيرهم من عبدة الأصنام لقوله ( وهم لا يؤمنون ) وقوله ( وإلينا يرجعون ) .
وانتصب ( يوم الحسرة ) على أنه مفعول خلف عن المفعول الثاني ل ( أنذرهم ) لأنه بمعنى أنذرهم عذاب يوم الحسرة .
A E