وفي البخاري : " عن أنس أن النبي A رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن يمشي . قال : إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني . وأمره أن يركب " فلم ير له في المشي في الطواف قربة .
A E وفيه عن ابن عباس : " أن النبي A مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك فقطعه النبي بيده ثم قال : قده بيده " .
وفي مسند أحمد عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي : " أن النبي A أدرك رجلين وهما مقتربان . فقال : ما بالهما ؟ قالا : إنا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة . فقال : أطلقا أنفسكما ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله . وقال : إسناده حسن .
الرابع : أن الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ : نهى رسول الله عن ذلك . ولذلك قال مالك في الموطأ عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس : " قال مالك : قد أمره رسول الله أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية " .
ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم سكن فيه حرج على النفس كنذر صمت ساعة وأنه تعذيب للنفس التي كرمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرء مفسدة مثل القصاص والجلد . ولذلك قال : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) .
وقال النبي A : " أن دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبشاركم عليكم حرام " لأن شريعة الإسلام لا تناط شرائعها إلا بجل المصالح ودرء المفاسد .
والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في الموطأ . ولذلك قال الشيخ أبو محمد في الرسالة : " ومن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه . وليستغفر الله " . فقوله " وليستغفر الله " بناء على أنه أتى بنذره مخالفا لنهي النبي A عنه .
ولو فعل أحد صمتا بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراما إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية .
وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحما على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة .
ومعنى ( فقولي إني نذرت للرحمن صوما ) : فانذري صوما وإن لقيت من البشر أحدا فقولي : إني نذرت صوما فحذفت جملة للقرينة . وقد جعل القول المتضمن إخبار بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى ( قولوا آمنا بالله ) . وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلا في حال الضرورة مع عدم تأتي الصدق معها ولذلك جاء في الحديث " إن في المعاريض مندوحة عن الكذب " .
وأطلق القول على ما يدل على ما في النفس وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوما مجازا بقرينة قوله ( فلن أكلم اليوم إنسيا ) . فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوما بأن تشير إشارة تدل على الانقطاع عن الأكل وإشارة تدل على أنها لا تتكلم لأجل ذلك فإن كان الصوم في شرعهم مشروطا بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية . وإن كلام الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين وقد علمت مريم أن الطفل الذي كلمها هو الذي يتولى الجواب عنها حين تسأل بقرينة قوله تعالى ( فأشارت إليه ) .
والنون في قوله ( ترين ) نون التوكيد الشديدة اتصلت بالفعل الذي صار آخره ياء بسبب حذف نون الرفع لأجل حرف الشرط فحركت الياء بحركة مجانسة لها كما هو الشأن مع نون التوكيد الشديدة .
والإنسي : الإنسان والياء فيه للنسب إلى الإنس وهو اسم جمع إنسان فياء النسب لإفادة فرد من الجنس مثل : ياء حرسي لواحد من الحرس . وهذا نكره في سياق النفي يفيد المموم أي لن أكلم أحدا .
وعدل عن ( أحد ) إلى ( إنسيا ) للرعي على فاصلة الياء وليس ذلك احترازا عن تكليمها الملائكة إذ لا يخطر ذلك بالبال عند المخاطبين بمن هيئت لهم هذه المقالة فالحمل عليه سماجة