والمشار إليه في قولها ( قبل هذا ) هو الحمل . أرادت أن لا يتطرق عرضا بطعن ولا تجر على أهلها معرة . ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدو الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة .
وقرأ الجمهور ( مت ) بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى ( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ) في سورة آل عمران . وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر بضم الميم على الأصل . وهما لغتان في فعل ( مات ) إذا اتصل به ضمير رفع متصل .
والنسي بكسر النون وسكون السين في قراءة الجمهور : الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى . ووزن فعل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيد تهيئته لتعلق الفعل به دون تعلق حصل . وذلك مثل الذبح في قوله تعالى ( وفديناه بذبح عظيم ) أي كبش عظيم معد لأن يذبح فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذبيح . والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنساء ويقولون عند الارتحال : أنظروا أنساءكم أي الأشياء التي شأنكم أن تنسوها .
ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها أي ليتني كنت شيئا غير متذكر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك .
وقرأه حمزة وحفص وخلف ( نسيا ) بفتح النون وهو لغة في النسي كالوتر والوتر والجسر والجسر .
( فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا [ 24 ] ) ضمير الرفع المستتر في ( ناداها ) عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في ( فحملته ) أي ناداها المولود .
قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف وروح عن يعقوب ( من تحتها ) بكسر ميم ( من ) على أنها حرف ابتداء متعلق ب ( ناداها ) وبجر ( تحتها ) .
وقرأ ابن كثير وأبو عمر وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب ( من ) بفتح الميم على أنها اسم موصول وفتح ( تحتها ) على أنه ظرف جعل صلة . والمعني بالموصول هو الغلام الذي تحتها . وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمه عليهما السلام .
وقيد ( من تحتها ) لتحقيق ذلك ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويرا لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتصال الصبي بأمه .
و ( أن ) من قوله ( ألا تحزني ) تفسيرية لفعل ( ناداها ) .
وجملة ( قد جعل ربك تحتك سريا ) خبر مراد به التعليل لجملة ( ألا تحزني ) أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية .
السري : الجدول من الماء كالساقية كثير الماء الجاري .
وهبها الله طعاما طيبا وشرابا طيبا كرامة لها يشهدها كل من يراها وكان معها خطيبها يوسف النجار ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهدا بعصمتها وبراءتها مما يظن بها . فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده . وأما الرطب فقيل كان الوقت شتاء ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة . وإنما أعطيت رطبا دون التمر لأن الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء .
( وهزي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطبا جنيا [ 25 ] فكلي واشربي وقري عينا ) فائدة قوله ( وهزي إليك بجذع النخلة ) أن يكون إثمار الجذع اليابس رطبا ببركة تحريكها إياه وتلك كرامة أخرى لها . ولتشاهد بعينها كيف يثمر الجذع اليابس رطبا . وفي ذلك كرامة لها بقوة يقينها بمرتبتها .
والباء في ( بجذع النخلة ) لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل ( وامسحوا برؤوسكم ) وقوله ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) .
وضمن ( هزي ) معنى قربي أو أدني فعدي ب ( إلى ) أي حركي جذع النخلة وقريبه يدن إليك ويلن بعد اليبس ويسقط عليك رطبا : والمعنى : أدني إلى نفسك جذع النخلة . فكان فاعل الفعل ومتعلقة متحدا وكلاهما ضمير معاد واحد . ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو ( واضمم إليك جناحك ) . فالضام والمضموم إليه واحد . وإنما منع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلا في أفعال القلوب وفي فعلي : عدم وفقد لعدم سماع ذلك لا لفساد المعنى فلا يقاس على ذلك منع غيره