والبغي : اسم للمرأة الزانية ولذلك لم تتصل به هاء التأنيث ووزنه فعيل أو فعول بمعنى فاعل فيكون أصله بغوي . لأنه من البغي فلما اجتمع الواو والياء وسكن السابق منهما قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء الأصلية وعوض عن ضمة الغين كسرة لمناسبة الياء فصار بغي .
وجواب الملك معناه : أن الأمر كما قلت نظير قوله في قصة زكريا ( كذلك قال ربك هو علي هين ) وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة لا بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم .
وفي قوله ( هو علي هين ) توجيه بأن ما اشتكته من توقع ضد قولها وطعنهم في عرضها ليس بأمر عظيم في جانب ما أراد الله من هدى الناس لرسالة عيسى عليه السلام بأن الله تعالى لا يصرفه عن إنفاذ مراده ما عسى أن يعرض من ضر في ذلك لبعض عبيده لأن مراعاة المصالح العامة تقدم على مراعاة المصالح الخاصة .
فضمير ( هو علي هين ) عائد إلى ما تضمنه حوارها من لحاق الضر بها كما فسرنا به قولها ( ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ) . فبين جواب الملك إياها وبين جواب الله زكريا اختلاف في المعنى .
والكلام في الموضوعين على لسان الملك من عند الله ولكنه أسند في قصة زكريا إلى الله لأن كلام الملك كان تبليغ وحي عن الله جوابا من الله عن مناجاة زكرياء وأسند في هذه القصة إلى الملك لأنه جواب عن خطابها إياه .
وقوله ( ولنجعله ) عطف على ( فأرسلنا إليها روحنا ) باعتبار ما في ذلك من قول الروح لها ( لأهب لك غلاما زكيا ) أي لأن هبة الغلام الزكي كرامة من الله لها وجعله آية للناس ورحمة كرامة للغلام فوقع التفات من طريقة الغيبة إلى طريقة التكلم .
وجملة ( وكان أمرا مقضيا ) يجوز أن تكون في قول الملك ويجوز أن تكون مستأنفه . وضمير ( كان ) عائد إلى الوهب المأخوذ من قوله ( لأهب لك غلاما ) .
وهذا قطع للمراجعة وإنباء بأن التخليق قد حصل في رحمها .
( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا [ 22 ] فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا [ 23 ] ) الفاء للتفريع والتعقيب أي فحملت بالغلام في فور تلك المراجعة .
والحمل : العلوق يقال : حملت المرأة ولدا وهو الأصل قال تعالى ( حملته أمه كرها ) . ويقال : حملت به . وكأن الباء لتأكيد اللصوق مثلها في ( وامسحوا برؤوسكم ) . قال أبو كبير الهذلي : حملت به في ليلة قرءودة كرها وعقد نطاقها لم يحلل والانتباذ تقدم قريبا وكذلك انتصاب ( مكانا ) تقدم .
و ( قصيا ) بعيدا أي بعيدا عن مكان أهلها . قيل : خرجت إلى البلاد المصرية فارة من قومها أن يعزروها وأعانها خطيبها يوسف النجار وأنها ولدت عيسى عليه السلام في الأرض المصرية . ولا يصح .
وفي إنجيل لوقا : أنها ولدته في قرية بيت لحم من البلاد اليهودية حين صعدت إليها مع خطيبها يوسف النجار إذ كان مطلوبا للحضور بقرية أهله لأن ملك البلاد يجري إحصاء سكان البلاد وهو ظاهر قوله تعالى ( فأتت به قومها تحمله ) .
والفاء في قوله ( فأجاءها المخاض ) للتعقيب العرفي أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل قيل بعد ثمانية أشهر من حملها .
و ( أجاءها ) معناه ألجأها وأصله جاء عدي بالهمزة فقيل : أجاءه أي جعله جائيا . ثم أطلق مجازا على إلجاء شيء شيئا إلى شيء كأنه يجئ به إلى ذلك الشيء ويضطره إلى المجيء إليه . قال الفراء : أصله من جئت وقد جعلته العرب إلجاء . وفي المثل " شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب " وقال زهير : .
وجار سار معتمدا إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء والمخاض بفتح الميم : طلق الحامل وهو تحرك الجنين للخروج .
والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة : العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد . وهو ما بين العروق والأغصان أي إلى أصل نخلة استندت إليه .
وجملة ( قالت ) استئناف بياني لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعد ما كان أمرها مستترا غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك ؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها .
وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى . فلذلك كانت في مقام الصديقية .
A E