ونكر المكان إبهاما له لعدم تعلق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالا في المقصود من القصة . وأما التصدي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرق قبلة لصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس . كما قال ابن عباس : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى الشرق قبلة لقوله تعالى ( مكانا شرقيا ) أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى . فذكر كون المكان شرقيا نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل .
واتخاذ الحجاب : جعل شيء يحجب عن الناس . قيل : إنها احتجبت لتغتسل وقيل لتمتشط .
والروح : الملك لأن تعليق الإرسال به وإضافته إلى ضمير الجلالة دلا على أنه من الملائكة وقد تمثل لها بشرا .
والتمثل : تكلف المماثلة أي أن ذلك الشكل ليس شكل الملك بالأصالة .
و ( بشرا ) حال من ضمير ( تمثل ) وهو حال على معنى التشبيه البليغ .
والبشر : الإنسان . قال تعالى ( إني خالق بشرا من طين ) أي خالق آدم عليه السلام .
والسوي : المستوى أي التام الخلق . وإنما تمثل لها كذلك للتناسب بين كمال الحقيقة وكمال الصورة وللإشارة إلى كمال عصمتها إذ قالت ( إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) إذ لم يكن في صورته ما يكره لأمثالها لأنها حسبت أنه بشر اختبأ لها ليراودها عن نفسها فبادرته بالتعوذ منه قبل أن يكلمها مبادرة بالإنكار على ما توهمته من قصده الذي هو المتبادر من أمثاله في مثل تلك الحالة .
وجملة ( إني أعوذ بالرحمن منك ) خبرية ولذلك أكدت بحرف التأكيد . والمعنى : أنها أخبرته بأنها جعلت الله معاذا لها منه أي جعلت جانب الله ملجأ لها مما هم به . وهذه موعظة له .
وذكرها صفة ( الرحمان ) دون غيرها من صفات الله لأنها أرادت أن يرحمها الله بدفع من حسبته داعرا عليها .
وقولها ( إن كنت تقيا ) تذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتقي ربه .
ومجيء هذا التذكير بصيغة الشرط المؤذن بالشك في تقواه قصد لتهييج خشيته . وكذلك اجتلاب فعل الكون الدال على كون التقوى مستقرة فيه . وهذا أبلغ وعظ وتذكير وحث على العمل بتقواه .
والقصر في قوله ( إنما أنا رسول ربك ) قصر إضافي أي لست بشرا ردا على قولها ( إن كنت تقيا ) المقتضى اعتقادها أنه بشر .
وقرأ الجمهور ( لأهب ) بهمزة المتكلم بعد لام العلة . ومعنى إسناد الهبة إلى نفسه مجاز عقلي لأنه سبب هذه الهبة . وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع ( ليهب ) بياء الغائب أي ليهب ربك لك مع أنها مكتوبة في المصحف بألف . وعندي أن قراءة هؤلاء بالياء بعد اللام إنما هي نطق الهمزة المخففة بعد كسر اللام بصورة نطق الياء .
ومحاورتها الملك محاولة قصدت بها صرفه عما جاء لأجله لأنها علمت أنه مرسل من الله فأرادت مراجعة ربها في أمر لم تطقه كما راجعه إبراهيم عليه السلام في قوم لوط . وكما راجعه محمد A في فرض خمسين صلاة . ومعنى المحاورة أن ذلك يجر لها ضرا عظيما إذ هي مخطوبة لرجل ولم يبن بها فكيف يتلقى الناس منها الإتيان بولد من غير أب معروف .
وقولها ( ولم أك بغيا ) تبرئة لنفسها من البغاء بما يقتضيه فعل الكون من تمكن الوصف الذي هو خبر الكون والمقصود منه تأكيد النفي . فمفاد قولها ( ولم أك بغيا ) غير مفاد قولها ( ولم يمسسني بشر ) وهو مما زادت به هذه القصة على ما في قصتها في سورة آل عمران لأن قصتها في سورة آل عمران نزلت بعد هذه فصح الاجتزاء في القصة بقولها ( ولم يمسسني بشر ) .
وقولها ( ولم يمسسني بشر ) أي لم يبن بي زوج لأنها كانت مخطوبة ومراكنة ليوسف النجار ولكنه لم يبن بها فإذا حملت بولد اتهمها خطيبها وأهلها بالزنى .
وأما قولها ( ولم أك بغيا ) فهو نفي لأن تكون بغيا من قبل تلك الساعة فلا ترضى بأن ترمى بالبغاء بعد ذلك . فالكلام كناية عن التنزه عن الوصم بالبغاء بقاعدة الاستصحاب . والمعنى : ما كنت بغيا فيما مضى أفأعد بغيا فيما يستقبل .
وللمفسرين في هذا المقام حيرة ذكرها الفخر والطيبي وفيما ذكرنا مخرج من مأزقها . وليس كلام مريم مسوقا مساق الاستبعاد مثل قول زكريا ( أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا ) لاختلاف الحالين لأن حال زكريا حال راغب في حصول الولد وحال مريم حال متشائم منه متبرئ من حصوله .
A E