وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل وهو زكريا الثاني زوج خالة مريم وليس له كتاب في أسفار التوراة وأما الذي له كتاب فهو زكريا ابن برخيا الذي كان موجودا في القرن السادس قبل المسيح . وقد مضت ترجمة زكريا الثاني في سورة آل عمران ومضت قصة دعائه هنالك .
و ( إذ نادى ربه ) ظرف ل ( رحمة ) أي رحمة الله إياه في ذلك الوقت أو بدل من ( ذكر ) أي اذكر ذلك الوقت .
A E والنداء : أصله رفع الصوت بطلب الإقبال . وتقدم عند قوله تعالى ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ) في سورة آل عمران وقوله ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها ) في سورة الأعراف . ويطلق الندار كثيرا على الكلام الذي فيه طلب إقبال الذات لعمل أو إقبال الذهن لوعي كلام فلذلك سميت الحروف التي يفتتح بها طلب الإقبال حروف النداء . ويطلق على الدعاء بطلب حاجة وإن لم يكن فيه نداء لأن شأن الدعاء في المتعارف أن يكون جهرا أي تضرعا لأنه أوقع في نفس المدعو . ومعنى الكلام : أن زكريا قال : يا رب بصوت خفي . وإنما كان خفيا لأن زكريا رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أن الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس فلذلك لم يدعه تضرعا وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالبا . فلعل يقينن زكريا كاف في تقوية التوجه . فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء . ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفيا لأنه نداء من يسمع الخفاء .
والمراد بالرحمة : استجابة دعائه كما سيصرح به بقوله ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ) . وإنما حكي في الآية وصف دعاء زكريا كما وقع فليس فيها إشعار بالثناء على إخفاء الدعاء .
( قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا [ 4 ] وإني خفت المولي من وراءي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا [ 5 ] يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا [ 6 ] ) جملة ( قال رب إني وهن العظم مني ) مبنية لجملة ( نادى ربه ) . وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله ( فهب لي من لدنك وليا ) . وإنما كان ذلك تمهيدا لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد . والله يجيب المضطر إذا دعاه . فليس سؤاله الولد سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر .
ووصف من ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالا ومثالا . فكان وهن العظم وعموم الشيب حالا مقتضيا للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة . فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت . والخبران من قوله ( وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ) مستعملان مجازا في لازم الإخبار . وهو الاسترحام لحاله . لأن المخبر بفتح الباء عالم بما تضمنه الخبران .
والوهن : الضعف . وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأن العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلعه الوهن إلا وقد بلغ ما فوقه .
والتعريف في ( العظم ) تعريف الجنس دال على عموم العظام منه . وشبه عموم الشيب شعر رأسه أو غلبته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم اسود . تشبيها مركبا تمثيليا قابلا لاعتبار التفريق في التشبيه . وهو أبدع أنواع المركب . فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل ( اشتعل ) .
وأسند الاشتعال إلى الرأس . وهو مكان الشعر الذي عمه الشيب . لأن الرأس لا يعمه الشيب إلا بعد أن يعم اللحية غالبا . فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن .
وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي لأن الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب . فلما جيء باسم الشيب تميزا لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته وخصوصية التفضيل بعد الاحتمال . مع إفادة تنكير ( شيبا ) من التعظيم فحصل إيجاز بديع . وأصل النظم المعتاد : واشتعل الشيب في شعر الرأس .
ولما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبني المعاني والبيان كان لها اعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب الكشاف ووضحه صاحب المفتاح فانظرهما .
وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله :