وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شاول ملك إسرائيل باسم طالوت . وهذا الملك هو الذي بنى السد الفاصل بين الصين ومنغوليا . واسم هذا الملك " تسينشي هوانقتي " أو " تسين شى هو انق تي " . وكان موجودا في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن . وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين " كنفيشيوس " المشرع المصلح . فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين .
وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيرا وقتل علماء وأحرق كتبا والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها .
ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن قيليبوس نحلوه بناء السد . وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين . وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة . .
والأمر في قوله ( قل سأتلو عليكم ) إذن من الله لرسوله بأن يعد بالجواب عن سؤالهم عملا بقوله ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن شاء الله ) على أحد تأويلين في معناه .
والسين في قول ( سأتلو عليكم ) لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى ( قال سوف أستغفر لكم ربي ) في سورة يوسف .
وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكرا للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوة حسب شأن القرآن فإنه يتلى لأجل الذكر ولا يساق مساق القصص .
وقوله ( منه ذكرا ) تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكرا وعظة . ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف : نحن نقص عليك من نبئهم . لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر . وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا .
وحرف ( من ) في قوله ( منه ذكرا ) للتبعيض باعتبار مضاف محذوف أي من خبره .
والتمكين : جعل الشيء متمكنا أي راسخا . وهو تمثيل لقوة التصرف بحيث لا يزعزع قوته أحد . وحق فعل " مكنا " التعدية بنفسه فيقال : مكناه في الأرض كقوله ( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) .
فاللام في قوله ( مكنا له في الأرض ) للتوكيد كاللام في قولهم : شكرت له ونصحت له والجمع بينهما تفنن . وعلى ذلك جاء قوله تعالى ( مكناهم في الأرض ما لم نمن لكم ) .
فمعنى التمكين في الأرض إعطاء المقدرة على التصرف .
والمراد بالأرض أهل الأرض والمراد بالأرض أرض معينة وهي أرض ملكه . وتقدم عند قوله تعالى ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) .
والسبب حقيقته : الحبل وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة كقوله تعالى ( وتقطعت بهم الأسباب ) في سورة البقرة .
و ( كل شيء ) مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى ( ولو جاءتهم كل آية ) أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة .
( فاتبع سببا [ 85 ] حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حميئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا [ 86 ] قال أما من ظلم فسوف نعذبه, ثم يرد إلى ربه فيعذبه, عذابا نكرا [ 87 ] وأما من آمن وعمل صلحا فله, جزاء الحسنى وسنقول له, من أمرنا يسرا [ 88 ] ) السبب : الوسيلة . المراد هنا معنى مجازي وهو الطريق لأن الطريق وسيلة إلى المكان المقصود وقرينة المجاز ذكر الاتباع والبلوغ في قوله ( فاتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس ) . والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى ( وآتيناه من كل شيء سببا ) إظهار اسم السبب دون إظماره لأنه لما أريد به معنى غير ما أريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيها على اختلاف المعنيين أي فاتبع طريقا للسير وكان سيره للغزو كما دل عليه قوله ( حتى إذا بلغ مغرب الشمس ) .
ولم يعد أهل اللغة معنى الطريق في معاني لفظ السبب لعلهم رأوه لم يكثر وينتشر في الكلام . ويظهر أن قوله تعالى ( أسباب السماوات ) من هذا المعنى وكذلك قول زهير : .
" ومن هاب أسباب المنايا ينلنه أي هاب طرق المنايا أن يسلكها تنله المنايا أي تأتيه فذلك مجاز بالقرينة .
A E