والقول الثالث : أنه ملك من ملوك الفرس وأنه " أفريدون بن أنفيان بن جمشيد " . هذه أوضح الأقوال وما دونها لا ينبغي التعويل عليه ولا تصحيح روايته .
A E ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوال تقرب تعيينه وتزييف ما عداه من الأقوال وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال بل الأمر في ذلك أوسع وهذه القصة القرآنية تعطى صفات لا محيد عنها : إحداها : أنه كان ملكا صالحا عادلا .
الثانية : أنه كان ملهما من الله .
الثالثة : أن ملكه شمل أقطارا شاسعه .
الرابعة : أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكانا كان مجهولا وهو عين حمئة .
الخامسة : أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية فكانت وسطا بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه .
السادسة : أنه أقام سدا يحول بين ياجوج وماجوج وبين قوم آخرين .
السابعة : أن ياجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فسادا وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك .
الثامنة : أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء .
التاسعة : أن خبره خفي دقيق لا يعلمه إلا الأحبار علما إجماليا كما دل عليه سبب النزول .
وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني لأنه لم يكن ملكا صالحا بل كان وثنيا فلم يكن أهلا لتلقي الوحي من الله وإن كانت له كمالات على الجملة وأيضا فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سدا بين بلدين .
وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد ياجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشئ عن شهرة الاسكندر فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلا من بنائه كما توهم العرب أن مدينة تدمر بناها سليمان عليه السلام . وأيضا فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الاسكندر حارب أمه ( سكيثوس ) . وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريبا .
وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم إسكندر المقدوني أثرا في اشتهار نسبة السد إليه . وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام .
ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة وفي الشرق إلى قوم مجهولين عراة أو عديمي المساكين ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين . وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعني بذي القرنين في هذه الآية . فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به . وأيضا فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمتان مجاورتان للأمة العربية .
ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملك المتحدث عنه هو أفريدون فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم . وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصرا إبراهيم عليه السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع . ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا . وقد ظهر من أقوالهم أن سبب هذا التوهم هو وجود كلمة ( ذو ) التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته .
فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكا من ملوك الصين لوجود .
أحدهما : أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع .
الثاني : أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة .
الثالث : أن من سماتهم تطويل سعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين .
الرابع : أن سدا ورد ما عظيما لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المغول . وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم وسيرد وصفه .
الخامس : ما روت أن حبيبة عن زينب بنت جحش ( رض ) أن النبي A خرج ليلة فقال : ( ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج هكذا . وأشار بعقد تسعين " أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام " .
وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن ياجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم .
A E