والحشر : جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد . ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف ( على ) لتضمينه معنى ( يمشون ) . وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي A كيف يمشون على وجوههم ؟ فقال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم . والمقصود من ذلك الجمع بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملا لصلابة الأرض من الرجل .
وهذا جزاء مناسب للجرم لأنهم روجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاء مشي عوضا عن الأرجل . ثم كانوا ( عميا وبكما ) جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن و ( صما ) جزاء امتناعهم من سماع الحق كما قال تعالى عنهم ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) . وقال عنهم ( قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) وقال عنهم ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محروما من متعة النظر . وهذه حالتهم عند الحشر .
والمأوى محل الأوي أي النزول بالمأوى أي المنزل والمقر .
وخبت النار خبوا وخبوا : نقص لهيبها .
A E والسعير : لهب النار وهو مشتق من سعر النار إذا هيج وقودها . وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعا لتذكير اللهب . والمعنى : زدناهم لهبا فيها .
وفي قوله ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) إشكال لأن نار جهنم لا تخبو . وقد قال تعالى ( فلا يخفف عنهم العذاب ) . فعن ابن عباس : أن الكفرة وقود للنار قال تعالى ( وقودها الناس والحجارة ) فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعدا من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم .
فالخبو وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم . ولهذه النكتة سلط فعل ( زدناهم ) على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم فكأنه قيل : كلما خبت فيهم زدناهم سعيرا ولم يقل : زدناها سعيرا .
وعندي : أن معنى الآية جار على طريق التهكم وبادئ الإطماع المسفر عن خيبة لأنه جعل ازدياد السعير مقترنا بكل زمان من أزمنة الخبو كما تفيده كلمة ( كلما ) التي هي بمعنى كل زمان . وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها . فهذا الكلام من قبيل التمليح وهو من قبيل قوله تعالى ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمال في سم الخياط ) وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله : على من قضيت ؟ فقال : على ابن أخت خالك .
( ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أ إذا كنا عظاما ورفاتا إنا لمبعوثون خلقا جديدا [ 98 ] ) استئناف بياني لأن العقاب الفظيع المحكي يثير في نفوس السامعين السؤال عن سبب تركب هذه الهيئة من تلك الصورة المفظعة فالجواب بأن ذلك بسبب الكفر بالآيات وإنكار المعاد .
فالإشارة إلى ما تقدم من قوله ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ) إلى آخر الآية بتأويل : المذكور .
والجزاء : العوض عن عمل .
والباء في ( بأنهم كفروا ) للسببية .
والظاهر أن جملة ( وقالوا أ إذا كنا عظاما ) الخ . عطف على جملة ( بأنهم كفروا ) فذكر وجه اجتماع تلك العقوبات لهم . وذكر سببان : أحدهما : الكفر بالآيات ويندرج فيه صنوف من الجرائم تفصيلا وجمعا تناسبها العقوبة التي في قوله ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم ) .
وثانيهما : إنكارهم البعث بقولهم ( أ إذا كنا عظاما ورفاتا إنا لمبعوثون خلقا جديدا ) المناسب له أن يعاقبوا عقابا يناسب ما أنكروه من تجدد الحياة بعد المصير رفاتا فإن رفات الإحراق أشد اضمحلالا من رفات العظام في التراب .
والاستفهام في حكاية قولهم ( أإذا كنا عظاما ) وقوله ( إنا لمبعوثون ) إنكاري . وتقدم اختلاف القراء في إثبات الهمزتين في قوله ( أإذا ) وفي إثباتها في قوله ( أإنا لمبعوثون ) في نظير هذه الآية من هذه السورة