وقولهم ( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) انتقال من تحديه بخوارق فيها منافع لهم إلى تحديه بخوارق فيها مضرتهم يريدون بذلك التوسيع عليه أي فليأتهم بآية على ذلك ولو في مضرتهم . وهذا حكاية لقولهم كما قالوا . ولعلهم أرادوا به الإغراق في التعجيب من ذلك فجمعوا بين جعل الإسقاط لنفس السماء . وعززوا تعجيبهم بالجملة المعترضة وهي ( كما زعمت ) إنباء بأن ذلك لا يصدق به أحد . وعنوا به قوله تعالى ( إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ) وبقوله ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ) إذ هو تهديد لهم بأشراط الساعة وإشرافهم على الحساب . وجعلوا ( من ) في قوله تعالى ( كسفا من السماء ) تبعيضية أي قطعة من الأجرام السماوية فلذلك أبوا تعدية فعل ( تسقط ) إلى ذات السماء . واعلم أن هذا يقتضي أن تكون هاتان الآيتان أو إحداها نزلت قبل سورة الإسراء وليس ذلك بمستبعد .
A E و ( الكسف ) " بكسر الكاف وفتح السين " جمع كسفة وهي القطعة من الشيء مثل سدرة وسدر . وكذلك قرأه نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وقرأه الباقون " بسكون السين " بمعنى المفعول أي المكسوف بمعنى المقطوع .
والزعم : القول المستبعد أو المحال .
والقبيل : الجماعة من جنس واحد . وهو منصوب على الحال من الملائكة أي هم قبيل خاص غير معروف كأنهم قالوا : أو تأتي بفريق من جنس الملائكة .
والزخرف : الذهب .
وإنما عدي ( ترقى في السماء ) بحرف ( في ) الظرفية للإشارة إلى أن الرقي تدرج في السماوات كمن يصعد في المرقاة والسلم .
ثم تفننوا في الاقتراح فسألوه إن رقى أن يرسل إليهم بكتاب ينزل من السماء يقرءونه فيه شهادة بأنه بلغ السماء . قيل : قائل ذلك عبد الله بن أبي أمية قال : حتى تأتينا بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون لك .
ولعلهم إنما أرادوا أن ينزل عليهم من السماء كتابا كاملا دفعة واحدة فيكونوا قد ألحدوا بتنجيم القرآن توهما بأن تنجيمه لا يناسب كونه منزلا من عند الله لأن التنجيم عندهم يقتضي التأمل والتصنع في تأليفه . ولذلك يكثر في القرآن بيان حكمة تنجيمه .
واللام في قوله ( لرقيك ) يجوز أن تكون لام التبيين . على أن ( رقيك ) مفعول ( نؤمن ) مثل قوله ( لن نؤمن لك ) فيكون ادعاء الرقي منفيا عنه التصديق حتى ينزل عليهم كتاب . ويجوز أن تكون اللام لام العلة ومفعول ( نؤمن ) محذوفا دل عليه قوله قبله ( لن نؤمن لك ) . والتقدير : لن نصدقك لأجل رقيك هي تنزل علينا كتابا . والمعنى : أنه لو رقى في السماء لكذبوا أعينهم حتى يرسل إليهم كتابا يرونه نازلا من السماء .
وهذا تورك منهم وتهكم .
ولما كان اقتراحهم اقتراح ملاجة وعناد أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كرمهم بكلمة ( سبحان ربي ) التي تستعمل في التعجب كما تقدم في طالع هذه السورة ثم بالاستفهام الإنكاري وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصرا إضافيا أي لست ربا متصرفا أخلق ما يطلب مني فكيف آتي بالله والملائكة وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها .
وقرأ الجمهور ( قل ) بصيغة فعل الأمر . وقرأه ابن كثير وابن عامر ( قال ) بألف بعد القاف بصيغة الماضي على أنه حكاية لجواب الرسول A عن قولهم ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) على طريقة الالتفات .
( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 94 ] قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 95 ] )