ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل ( صرفنا ) على الآخر : أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقا لتحديهم والحجة عليهم وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة إلا أن الاعتبارات الطارئة تقدم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية لأن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالا . ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر . والأظهر كون التعريف في ( الناس ) للعموم كما يقتضيه قوله ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) .
وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله ( من كل مثل ) بخلاف الآية السابقة لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزا لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بين من جهتين لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض كما أشار إليه قوله تعالى في سورة البقرة ( فأتوا بسورة من مثله ) فإن ( من ) للتبعيض وتنوين ( مثل ) للتعظيم والتشريف أي من كل مثل شريف . والمراد : شرفه في المقصود من التمثيل .
و ( من ) في قوله ( من كل مثل ) . للتبعيض و ( كل ) تفيد العموم فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل .
وحذف مفعول ( أبى ) للقرينة أي أبى العمل به .
وفي قوله ( إلا كفورا ) تأكيد الشيء بما يشبه ضده أي تأكيد في صورة النقص لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة ثم يأتي المستثنى مؤكدا لمعنى المستثنى منه إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة . وهو استثناء مفرع لما في فعل ( أبى ) من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله ( هل كنت إلا بشرا رسولا ) .
والكفور " بضم الكاف " المحجود أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا .
( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [ 90 ] أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا [ 91 ] أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 92 ] أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ 93 ] ) عطف جملة ( وقالوا ) على جملة ( فأبى الظالمون إلا كفورا ) . أي كفروا بالقرآن وطلبوا بمعجزات أخرى .
وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفورا باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلا جميعه أو بعضهم قائلا بعضه .
ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي A مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات . وقد ذكر ابن إسحاق : أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وناسا معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي A أن يأتيهم . فأسرع إليهم حرصا على هداهم فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد . وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا ينبغي غير نصحهم فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية .
وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى ( أو ترقى في السماء ) إلى آخره هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي .
وحكى الله امتناعهم عن الإيمان بحرف ( لن ) المفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه .
والمراد بالأرض : أرض مكة فالتعريف للعهد ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات .
A E