وإذ قد جرى ذكر الروح في هذه الآية وصرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرف حقيقة الروح بوجه الإجمال فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة ما تغيرت به الحالة التي اقتضت صرف السائلين في هذه الآية بعض التغير وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد أهل العلم استعدادا لتجلي بعض ماهية الروح فلذلك لا نجاري الذين قالوا : إن حقيقة الروح يجب الإمساك عن بيانها لأن النبي A أمسك عنها فلا ينبغي الخوض في شأن الروح بأكثر من كونها موجودة . فقد رأى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم أبو بكر بن العربي في العواصم . والنووي في شرح مسلم : أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود ولم يقصد بها المسلمون . فقال جمهور المتكلمين : إنها من الجواهر المجردة . وهو غير بعيد عن قول بعضهم : هي من الأجسام اللطيفة والأرواح حادثة عند المتكلمين من المسلمين وهو قول أرسطاليس . وقال قدماء الفلاسفة : هي قديمة . وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم . ومعنى كونها حادثة أنها مخلوقة لله تعالى . فقيل : الأرواح مخلوقة قبل خلق الأبدان التي تنفخ فيها . وهو الأصح الجاري على ظواهر كلام النبي A فهي موجودة من الأزل كوجود الملائكة والشياطين وقيل : تخلق عند إرادة إيجاد الحياة في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على أن الأرواح باقية بعد فناء أجسادها وأنها تحضر يوم الحساب .
( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا [ 86 ] إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا [ 87 ] ) هذا متصل بقوله ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ) الآية أفضت إليه المناسبة فإنه لما تضمن قوله ( قل الروح من أمر ربي ) تلقين كلمة علم جامعة وتضمن أن الأمة أوتيت علما ومنعت علما . وأن علم النبوءة من أعظم ما أوتيته أعقب ذلك بالتنبيه إلى الشكر على نعمة العلم دفعا لغرور النفس لأن العلم بالأشياء يكسبها إعجابا بتميزها عمن دونها فيه . فأوقظت إلى أن الذي منح العلم قادر على سلبه وخوطب بذلك النبي A لأن علمه أعظم علم فإذا كان وجود علمه خاضعا لمشيئة الله فما الظن بعلم غيره تعريضا لبقية العلماء . فالكلام صريحة تحذير وهو كناية عن الامتنان كما دل عليه قوله بعده ( إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ) وتعريض بتحذير أهل العلم .
واللام موطئة للقسم المحذوف قبل الشرط .
وجملة ( لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) جواب القسم . وهو دليل جواب الشرط ومغن عنه .
و ( لنذهبن بالذي أوحينا ) بمعنى لنذهبنه أي عنك وهو أبلغ من " نذهبه " كما تقدم في قوله ( الذي أسى بعبده ) .
وما صدق الموصول القرآن .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي لأن نفي الطمع في استرجاع المسلوب أشد على النفس من سلبه فذكره أدخل في التنبيه على الشكر والتحذير من الغرور .
والوكيل : من يوكل إليه المهم . والمراد به هنا المدافع عنك والشفيع لك . ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب ( على ) . ولما فيه من معنى التعهد والمطالبة عدي إلى المردود بالباء . أي متعهدا بالذي أوحينا إليك . ومعنى التعهد : به التعهد باسترجاعه لأنه في مقابلة قوله ( لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) ولأن التعهد لا يكون بذات شيء بل بحال من أحواله فجرى الكلام على الإيجاز .
وذكر هنا ( وكيلا ) وفي الآية قبلها ( نصيرا ) لأن معنى هذه على فرض سلب نعمة الاصطفاء فالمطالبة بإرجاع النعمة شفاعة ووكالة عنه وأما الآية قبلها فهي في فرض إلحاق عقوبة به . فمدافعة تلك العقوبة أو الثأر بها نصر .
والاستثناء في قوله ( إلا رحمة من ربك ) منقطع فحرف الاستثناء فيه بمعنى الاستدراك . وهو استدراك على ما اقتضاه فعل الشرط من توقع ذلك أي لكن رحمة من ربك نفت مشيئة الذهاب بالذي أوحينا إليك فهو باق غير مذهوب به .
وهذا إيماء إلى بقاء القرآن وحفظه قال تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
A E