وعن قتادة والحسن : أنهم سألوا عن جبريل والأصح القول الأول . وفي الروض الأنف أن النبي A أجابهم مرة فقال لهم : هو جبريل " عليه السلام " . وقد أوضحناه في سورة الكهف .
A E وإنما سألوا عن حقيقة الروح وبيان ماهيتها فإنها قد شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين لظهور أن في الجسد الحي شيئا زائدا على الجسم به يكون الإنسان مدركا وبزواله يصير الجسم مسلوب الإرادة والإدراك فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئا زائدا على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئا من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة .
وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع أجيبوا بأن الروح من أمر الله . أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله ولكنه مما استأثر الله بعمله . فلفظ ( أمر ) يحتمل أن يكون مرادف الشيء . فالمعنى : الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله . فإضافة ( أمر ) إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص أي أمر اختص بالله اختصاص علم .
و ( من ) للتبعيض فيكون هذا الإطلاق كقوله ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) . ويحتمل أن يكون الأمر أمر التكوين . فإما أن يراد نفس المصدر وتكون ( من ) ابتدائية كما في قوله ( إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) أي الروح يصدر عن أمر الله بتكوينه ؛ أو يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و ( من ) تبعيضية أي الروح بعض مأمورات الله فيكون المراد بالروح جبريل " عليه السلام " . أي الروح من المخلوقات الذين يأمرهم الله بتبليغ الوحي وعلى كلا الوجهين لم تكن الآية جوابا عن سؤالهم .
وروى ابن العربي في الأحكام عن ابن وهب عن مالك أنه قال : " لم يأته في ذلك جواب " اه . أي أن قوله ( قل الروح من أمر ربي ) ليس جوابا ببيان ما سألوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بان هذا من العلم الذي لم يؤتوه . والاحتمالات كلها مرادة وهي كلمة جامعة . وفيها رمز إلى تعريف الروح تعريفا بالجنس وهو رسم .
وجملة ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) يجوز أن تكون مما أمر الله رسوله أن يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش أو لليهود الذين لقنوهم ويجوز أن يكون تذييلا أو اعتراضا فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب والمخاطبون متفاوتون في القليل المستثنى من المؤتى من العلم . وأن يكون خطابا للمسلمين .
والمراد بالعلم هنا المعلوم أي ما شأنه أن يعلم أو من معلومات الله . ووصفه بالقليل بالنسبة إلى ما من شأنه أن يعلم من الموجودات والحقائق .
وفي جامع الترمذي قالوا " أي اليهود " : أوتينا علما كثيرا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزلت ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) الآية .
وأوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فلما هاجر رسول الله A إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أفعنيتنا أم قومك ؟ قال : كلا قد عنيت . قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء . فقال رسول الله : هي في علم الله قليل وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم . فأنزل الله ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) .
هذا والذين حاولوا تقريب شرح ماهية الروح من الفلاسفة والمتشرعين بواسطة القول الشارح لم يأتوا إلا برسوم ناقصة مأخوذة فيها الأجناس البعيدة والخواص التقريبية غير المنضبطة وتحكيم الآثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي وكلها متفاوتة في القرب من شرح خاصاته وأماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم . وكلها لا تعدو أن تكون رسوما خيالية وشعرية معبرة عن آثار الروح في الإنسان .
A E