روى ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث . وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بيثرب يسألانهم عن أمر النبي A فقال اليهود لهما : سلوه عن ثلاثة . وذكروا لهم أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سيأتي في سورة الكهف . فسألته قريش عنها فأجاب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سورة الكهف وأجاب عن الروح بما في هذه السورة .
A E وهذه الرواية تثير إشكالا في وجه فصل جواب سؤال الروح عن المسألتين الأخريين بذكر جواب مسألة الروح في سورة الإسراء وهي متقدمة في النزول على سورة الكهف . ويدفع الإشكال أنه يجوز أن يكون السؤال عن الروح وقع منفردا أول مرة ثم جمع مع المسألتين الأخريين ثاني مرة .
ويجوز أن تكون آية سؤال مما ألحق بسورة الإسراء كما سنبينه في سورة الكهف . والجمهور على أن الجميع نزل بمكة قال الطبري عن عطاء ابن يسار نزل قوله ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) بمكة .
وأما ما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال : بينما أنا مع النبي في حرث بالمدينة إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح . فسألوه عن الروح فأمسك النبي A فلم يرد عليهم شيئا فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال : ( يسألونك عن الروح ) الآية . فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم : أن اليهود لما سألوا النبي A قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشا فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشا سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير .
هذا والذي يترجح عندي : أن فيما ذكره أهل السير تخليطا وأن قريشا استقوا من اليهود شيئا ومن النصارى شيئا فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شؤون النصارى . بناء على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الاسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتأريخ بلاد الروم فتعين أن اليهود ما لقنوا قريشا إلا السؤال عن الروح . وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شان الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس .
وسؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوه عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالة فيه .
والروح : يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنينا بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوما وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) . وهذا يسمى أيضا بالنفس كقوله ( يا أيتها النفس المطمئنة ) .
ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) وقوله ( وروح منه ) .
ويطلق لفظ ( الروح ) على الملك الذي ينزل بالوحي على الرسل . وهو جبريل " عليه السلام " ومنه قوله تعالى ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) .
واختلف المفسرون في الروح المسؤول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة . فالجمهور قالوا : المسؤول عنه هو الروح بالمعنى الأول قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالا عن معنى مصطلح قرآني . وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول " وروح الله يرف على وجه المياه " . وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم