وحذف متعلق ( أعرض ونأى ) لدلالة المقام عليه من قوله ( أنعمنا على الإنسان ) أي أعرض عنا وأجفل منا أي من عبادتنا وأمرنا ونهينا .
وقرأ الجمهور ( ونأى ) بهمزة بعد النون وألف بعد الهمزة .
A E وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر ( وناء ) بألف بعد النون ثم همزة . وهذا من القلب المكاني لأن العرب قد يتطلبون تخفيف الهمزة إذا وقعت بعد حرف صحيح وبعدها مدة فيقلبون المدة قبل الهمزة لأن وقوعها بعد المد أخف . من ذلك قولهم : راء في رأى وقولهم : آرام في أرام جمع رئم وقيل : ناء في هذه القراءة بمعنى ثقل أي عن الشكر أي في معنى قوله تعالى ( ولكنه أخلد إلى الأرض ) .
وجملة ( وإذا مسه الشر كان يئوسا ) احتراس من أن يتوهم السامع من التقييد بقوله ( وإذا أنعمنا ) أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله فبين أن حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء فإذا زالت النعمة عنه لم يقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله ولكنه ييأس من الخير ويبقى حنقا ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره .
ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة فصلت ( وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) كما سيأتي هنالك .
ودل قوله ( كان يئوسا ) على قوة يأسه إذ صيغ له مثال المبالغة . وأقحم معه فعل ( كان ) الدال على رسوخ الفعل تعجيبا من حاله في وقت مس الضر إياه لأن حالة الضر أدعى إلى الفكرة في وسائل دفعه بخلاف حالة الإعراض في وقت النعمة فإنها حالة لا يستغرب فيها الازدهاء لما هو فيه من النعمة .
( قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا [ 84 ] ) هذا تذييل . وهو تنهية للغرض الذي ابتدئ من قوله ( ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله ) الراجع إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس في خلال الاستدلال على أنه المتصرف الوحيد وإلى التحذير من عواقب كفران النعم . وإذ قد ذكر في خلال ذلك فريقان في قوله ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) الآية وقوله ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) .
ولما في كلمة ( كل ) من العموم كانت الجملة تذييلا .
وتنوين ( كل ) تنوين عوض عن المضاف إليه أي كل أحد مما شمله عموم قوله ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) وقوله ( ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) وقوله ( وإذا أنعمنا على الإنسان ) .
والشاكلة : الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها ونشأ عليها . وأصلها شاكلة الطريق وهي الشعبة التي تتشعب منه . قال النابغة يذكر ثوبا يشبه به بنيات الطريق : .
له خلج تهوي فرادى وترعوي ... إلى كل ذي نيرين بادي الشواكل وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا . وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل .
وفرع عليه قوله ( فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) . وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله والترغيب للمؤمنين والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون كقوله ( وإنا أو إياكم لعلى هدى ) الآية .
( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ 85 ] ) وقع هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمه أن مرجع ضمير ( يسألونك ) هو مرجع الضمائر المتقدمة فالسائلون عن الروح هم قريش . وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل عنه فقالوا : سلوه عن الروح قال : فسألوه عن الروح فأنزل الله تعالى ( ويسألونك عن الروح ) الآية .
وظاهر هذا أنهم سألوه عن الروح خاصة وأن الآية نزلت بسبب سؤالهم . وحينئذ فلا إشكال في إفراد هذا السؤال في هذه الآية على هذه الرواية . وبذلك يكون موقع هذه الآية بين الآيات التي قبلها والتي بعدها مسببا على نزولها بين نزول تلك الآيات .
واعلم أنه كان بين قريش وبين أهل يثرب صلات كثيرة من صهر وتجارة وصحبة . وكان لكل يثربي صاحب بمكة ينزل عنده إذا قدم الآخر بلده كما كان بين أمية بن خلف وسعد بن معاذ . وقصتهما مذكورة في حديث غزوة بدر من صحيح البخاري