إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز ومنها ما يكون وحده تفسيرا . ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك . ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول " لئن كان كل امرئ فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون " يشير إلى قوله تعالى ( لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) فأجاب ابن عباس قائلا : إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عباس ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون . . لا يحسبن الذين يفرحون ) . الآيات . وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما قالت عائشة : كلا لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) اه ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام كما سننبهك إليه في أثناء المقدمة العاشرة .
وقد تصفحت أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدتها خمسة أقسام : الأول : هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلابد من البحث عنه للمفسر وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) ونحو ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ومثل بعض الآيات التي فيها ( ومن الناس ) .
والثاني : هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية ( ومن كان مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ) الآية فقد قال كعب بن عجرة : هي لي خاصة ولكم عامة ومثل قول أم سلمة Bها للنبي A : يغزو الرجال ولا نغزو فنزل قوله تعالى ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) الآية . وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا .
A E